مازالت هناك أعداد كبيرة من العرب وفي جميع الأقطار العربية دون استثناء تؤمن أنّ ما يصيب بيروت وصنعاء يصيبها هي أيضاً في الصميم لأنها تؤمن، فعلاً لا قولاً فقط، بالمصير العربي المشترك وبخطط ونوايا الأعداء والخصوم، قديمها وحديثها، باستهداف هذه الأمة من محيطها إلى خليجها ولأسباب وأطماع وخطط لتعويم الكيان الغاصب في هذه المنطقة التي تقع موقع القلب من العالم. وفي كلّ محنة أو كارثة تصيب أي جزء من هذا الوطن الكبير نجد أولاً أبناء الوطن يقفزون فوراً فوق القطرية والمذهبية والطائفية والأحزاب السياسية وينصهرون في لحمة إنسانية لا تبخل أبداً بكلّ ما لديها لمدّ يد العون للمنكوبين والمحتاجين، كما نتابع اليوم ردود الفعل العربية في جميع أقطارهم تبكي كارثة ميناء بيروت وكذلك انهيار الأبنية التاريخية الفريدة في صنعاء في ردة فعل عفوية تظهر عمق وشائج القربى بين العرب الحقيقيين في بلدانهم المختلفة، مما يذكرنا بالعرب يبكون بغداد من الخليج إلى المغرب وهي تُقصفُ عام 2003 ويقولون: هذه بغداد!! هل يعقل أن نجلس هنا وبغداد تُقصف؟! وفي حمأة كارثة إنسانية تم تصنيفها أنها الثانية بعد هيروشيما لم تغفل أدوات التضليل عن شحذ الكراهية وبث الأكاذيب والشائعات حول أطراف سياسية معينة بهدف تكريس الانقسام في لبنان ومنع أهله من الالتفاف حول قضاياهم الأساسية والاتفاق على أولوياتهم التي ترفع من شأنهم كلهم جميعاً مما يبرهن للمرة الألف أن أخشى ما يخشاه الخصوم والأعداء في بلداننا هو وحدة القلوب والعقول والاتفاق على هدف واحد والعمل كفريق متناغم متكافل لخدمة مصالح الجميع وتعزيز دور الدولة وتحصينها لمواجهة الصعاب وكسب معارك التنمية والازدهار. وهؤلاء الذين يخشون وحدة الصف والموقف عملوا منذ عقود وبأساليب مختلفة ومتجدّدة لمنع التلاقي بين العرب ومنع وحدة الكلمة، ولبثّ الفرقة الطائفية والمذهبية والعرقية والسياسية التي تضمن بقاء هذه البلدان ضعيفة كما تضمن ارتهان قرارها للمستعمر الذي يسمّي نفسه صديقاً بعد أن استبدل جلد الذئب بجلد الحمل دون أن يغيّر من قناعاته وخططه وأهدافه.
والمؤسف في الأمر هو انخفاض درجة الوعي بحقيقة ما يحلّ بأوطاننا وأقصر السبل للنهوض بهذه الأوطان؛ بحيث يستسهل الكثيرون النظر إلى رئيس أجنبي مكروه وفاشل في بلده وكأنه المسيح؛ قادم ليخلّصهم من كل ما يعتريهم من ظلم وقصور؛ فانطلقت الدعوات لاستقدام محققين دوليين رغم أن آخر حادث كبير اعترى لبنان منذ خمسة عشر عاماً لم تظهر نتائج التحقيق الدولي فيه حتى الآن، ورغم تآكل الشرعة الدولية وتخلّي الولايات المتحدة والدول الغربية عن أدنى درجات الالتزام حتى بالاتفاقات الموقعة من قبلهم وبالشرعية الدولية وحقوق الإنسان نجد من يطالب بتدخل الأمم المتحدة وكأن هذه المنظمة تدخلت وحلت قضية اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها، والهدف من ذلك هو تدويل أزمة أحوج ما تكون إلى دراسة العوامل الداخلية التي أدت إلى تفاقهما وربما كانت أحد أسباب وقوعها . ويأتي المستعمر الفرنسي ليعد بالمساعدات ولكن على ألا تصل إلى أيدي "الفاسدين" وكأن بلده ليست مرتعاً للفاسدين الأجانب! ويعد وعوداً مشروطة بالإصلاحات التي روّج لها وزير خارجيته قبل فترة قصيرة، ويضيف أنه عائد في أيلول ليفحص جدول التنفيذ ويعطي العلامات لما تم إنجازه ويحكم بالفشل على من لم يلتزم بالخطة المقترحة عليهم منذ حين، وكأن البعض قد نسوا أو تناسوا أن معضلة هذه الأمة التي لم تتمكن من التغلب عليها بعد قد ولدت من رحم وعد بلفور وسايكس بيكو والدساتير الطائفية التي صاغها المستعمرون لتبقى في خدمة أهدافهم وسيطرتهم الحقيقية على القرارات الاستراتيجية في المنطقة، ولكنّ هذا لا يغفر أبداً التقصير في بناء الدول والذي يجب أن يعتمد أولاً وأخيراً على مبدأ العدالة والثواب والعقاب وسيادة القانون ووضع هيبة الدولة فوق كلّ اعتبار؛ فكلّ من عمل في الشأن العام وفي أي بلد عربي يدرك حقيقة هدر الوقت والتهرّب من اتخاذ قرار جريء وصادق وفي مختلف المجالات ولاعتبارات لا علاقة لها غالباً بحسن الأداء أو حتى بمصلحة الملف الذي يمسك به المسؤول بحيث درج الكثيرون في هذه الأمة على اللجوء إلى "التريّث" كي لا يتخذوا القرار الذي يمكن أن يثير غضب أحد أو يفقدهم ودّ أحد أو يؤثر على فرصة قد تلوح لهم في الأفق إذا ما بقوا صامتين خاملين كالبحر الراكد الذي لا تنغّص منظره الأمواج، وأنا هنا لا أتحدث عن بلد بعينه أو مرحلة بعينها ولكني اتحدث وفق معرفتي بمعظم الدول العربية بعد أن نالت استقلالها من المحتل الأجنبي وعن سير العمل في هذه البلدان والذي أدى إلى تراكمات تنفجر بين الحين والآخر هنا أو هناك ولسبب أو لآخر، وبسبب فتيل قد لا يكون له علاقة بالأسباب التي أوصلت الأمور إلى مرحلة قابلة للانفجار . هناك مثل في اللغة الإنكليزية يقول: "قرار سيء أفضل من اللاقرار" ، لأنك حين تكتشف أنك اتخذت قراراً سيئاً تعمل بعد حين على تغييره واتخاذ قرار أفضل ، ولكنّ اللاقرار يعني أن تترهل الأوضاع وتتراكم المشاكل وتتحول مع مرور الزمن إلى أزمات دون توفر الإرادة لمعالجتها واتخاذ قرار حاسم بشأنها. وقد يكون أحد الأسباب المؤدية إلى اتباع أسلوب اللاقرار هو غياب نظم التقييم والمحاسبة الحقيقية؛ فرغم وجود الدول والمسؤوليات الجسام الملقاة على عاتقها مازالت الشائعة تتصدّر مصادر الأخبار في مجتمعاتنا ولذلك لا أحد يريد أن تتناوله الشائعات وأن تؤثر على مستقبله السياسي إذا ما أراد إصلاحاً حقيقياً وقرّر صمّ أذنيه عما يقولون وعمل برؤية وبصيرة نافذة واضعاً المصلحة العامة فوق كلّ اعتبار وصابراً على الهنات والصعوبات التي تعترض مجال عمله والتي يتخذ منها الآخرون ذريعة للتشهير به والحكم عليه بالفشل قبل أن يصل إلى نهاياته وقبل أن يستكمل خططه وتؤتي أكلها. وعلّ هذا التداخل والتشويش على المخلصين والصادقين ذو صلة وثيقة بما كتبته الأسبوع الفائت عن الطرف الثالث؛ إذ أن هدف هذا الطرف الداخلي الذي أصبح أداة أساسية بيد الخصوم والأعداء هو أن يطلق الشائعات ويعطّل أي عمل وطني يهدف إلى رصّ الصفوف والوصول إلى وحدة وطنية من خلال عمل جادٍ ومثمر تحكم عليه الأجيال القادمة ويحكم عليه التاريخ دون أن يأبه اليوم بأقاويل المغرضين وتداخلات الخونة والمأجورين من الطابور الخامس الذي وضح دوره في السنوات الأخيرة في تدمير البلدان العربية ووضعها في خدمة الأعداء.
لا شك أن القوى الاستعمارية استهدفتنا عبر تاريخنا وما زالت تثير الحروب والإرهاب والنعرات لتمنعنا من الإمساك بناصية أمورنا وتحصين بلداننا من الداخل، ولكن ألم يحن الوقت بعد لامتلاك درجة عالية من الوعي بكلّ ماحلّ بنا واستخلاص الدروس والبناء السليم والمتوازن مستفيدين من تجارب الأمم حتى تلك التي تكنّ لنا العداء؟ حين سألت رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني السيد علي شمخاني عن آليات عمل مجلسهم قال لي "درسنا تجارب الدول من الولايات المتحدة إلى أوروبا والصين في مجالس الأمن القومي لديهم وانتقينا الأفضل وأقلمناه حسب ثقافتنا وحاجاتنا ولذلك تجدينه فعّالاً ويؤدي دوراً متميزاً في خدمة البلاد".
كفى مراوغة وغموضاً؛ فقد أصبح وعي الشعوب متقدماً على وعي المسؤولين، ولابدّ من اعتماد اللغة الصريحة الصادقة إذا كنّا فعلاً نريد مقاومة الشائعات وما يبثه الخصوم من أفكار مضلّلة كاذبة؛ فرفع درجة الوعي وكسب ثقة الناس هما الضمانة الوحيدة لدعم الجماهير وتفاعلها مع أصحاب الشأن من أجل حماية الأوطان.