للوهلة الأولى، تبدو الاستقالات المُعلَنة من البرلمان خلال اليومين الماضيين، "عشوائية"، غير منسَّقة، وربما غير مدروسة أيضاً.
صحيحٌ أنّ وتيرتها تبدو متّجهة إلى التصاعد خلال الساعات المقبلة، لكنّها تبقى "محدودة" طالما أنّها لا تزال في إطارٍ "فرديّ"، ولم تطرق باب الكتل الوازنة والكبرى، ما "يحصرها" برأي كثيرين، في خانة "الشعبويّة" لا أكثر.
مع ذلك، ثمّة من يرى أنّ هذه "الاستقالات" يمكن أن تكون أكثر من "مؤثِّرة"، وأنّها ستؤسّس لـ"حقبة" جديدة، لأنّ مرحلة ما بعد الرابع من آب مختلفة عن كلّ ما سبقها، وبطبيعة الحال عن مرحلة ما بعد السابع عشر من تشرين.
فهل تتّسع هذه الاستقالات، شكلاً ومضموناً، لتفرض "تغييراً" لم يعد خياراً بل أصبح "واجباً"، أم أنّها ستقف هنا، من دون أن تؤسِّس لأيّ شيءٍ يبقى غير وارد في "الأجندة" السياسيّة، المتّفَق عليها بين القوى الكبرى؟!.
استقالات عاطفيّة؟!
ليس خافياً على أحد أنّ "العاطفة" شكّلت العنوان الغالب على الاستقالات "الفرديّة" التي أعلِنت في عطلة نهاية الأسبوع، والتي يُتوقّع أن يستمرّ "عدّادها" في الارتفاع، بعدما بدأ يطال عدداً من نواب الكتل الوازنة، ولكن بشكلٍ "شخصيّ".
وقد يكون أبرز دليلٍ على ذلك اختيار رئيس حزب "الكتائب" النائب سامي الجميل إعلان استقالة نواب الحزب الثلاثة في مناسبةٍ "وجدانيّة" هي تشييع الأمين العام للحزب نزار نجاريان الذي قضى في الانفجار المشؤوم الذي ضرب مرفأ بيروت، رغم أنّ القرار اتُخِذ قبل ذلك في اجتماعٍ للمكتب السياسي للحزب، وتسرّب للإعلام.
انطلاقاً من ذلك، ثمّة من يضع هذه الاستقالات في الخانة "الشعبويّة" الآنيّة، وقد يكون مُحِقّاً في ذلك، باعتبار أنّ هذه الاستقالات قد تلاقي "الغضب الشعبيّ" في مكانٍ ما، لكنّها لا تفعل أكثر من ذلك، أقلّه في الوقت الحاليّ، علماً أنّ علامات استفهام تُرسَم حول بعض الاستقالات الأخرى، التي بقيت "مع وقف التنفيذ" رغم إعلانها، طالما أنّها لم تُسلَّم بشكلٍ خطّي إلى رئاسة البرلمان، ما يتيح التراجع عنها في أيّ لحظة، ولو من بوابة "تعليق النشاط النيابي" وهو العنوان الذي اختاره النائب نعمة افرام مثلاً شعاراً لـ "استقالته"، رغم التناقض بين المفهوميْن.
لكن، أبعد من هذه "العاطفية" و"الشعبويّة"، ثمّة بُعْدٌ آخر في هذه الاستقالات، ولو كانت "عشوائية"، يختصره بعض النواب المستقيلين أنفسهم، ممّن يرون في خطوتهم "فشّة خلق" بالحدّ الأدنى، بعدما أعلنوا "اليأس والاستسلام" أمام نظامٍ بات يستفيد من وجودهم كمُعارِضين لـ "تجميل" واقعهم، لا أكثر ولا أقلّ. ويقول هؤلاء إنّهم وصلوا إلى قناعة بأنّ المعارضة من داخل المؤسسات، والتي لطالما تسلّحوا بها، لم تعد مُجدية، طالما أنّهم "عاجزون" عن فعل شيء، سوى "التطبيع" مع نظامٍ تخطّى كلّ الحدود في التمسّك بالكرسيّ، ولو على حساب الدماء البريئة التي سقطت في "زلزال" المرفأ.
الكتل "تتريّث"...
قد يفسَّر مثل هذا الكلام في الكثير من الأوساط السياسية، على أنّه "شعبويّ"، لا أكثر ولا أقلّ، ولو أنّه ينطلق من "واقعية" تفرضها مُعطيات "المجزرة" غير المسبوقة التي شهدها مرفأ بيروت، والتي لا يجوز أن يكون ما بعدها كما قبلها، بمُعزَل عن كلّ المعطيات السياسيّة، وفرضيّات "المؤامرة" التي يتفنّن البعض في "استحضارها"، عن وجه حقّ أو من دونه.
بيد أنّ المُشكِلة الكبرى تبقى حين تصطدم "شعبويّة" الاستقالات "العشوائية" هذه، بالحسابات السياسيّة التي تتسلّح بها الكتل "الوازنة" والكبرى، لتبرير "تريّثها" في حسم قرارها، بعضها بشكلٍ مُعلَن، كما فعل حزب "القوات اللبنانية"، الذي أعلن رئيسه سمير جعجع أنّه لن يستقيل إلا عند "ضمان" النتائج، وبعضها من خلف الكواليس كتيار "المستقبل"، ومن خلفه "الحزب التقدمي الاشتراكي".
يرى البعض، أنه بخلاف "شعبويّة" النواب المستقيلين، فإنّ هذه الكتل تبدو أكثر "واقعيّة" في مقاربة الأمر، باعتبار أنّ الاستقالة من مجلس النواب لن تؤدّي سوى إلى "تسليم الراية" للمحور المهيمِن على القرار، أي "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، وهو ما عبّر عنه صراحةً رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط في مؤتمره الصحافي الأسبوع الماضي. ويذهب البعض أبعد من ذلك بالقول إنّ استقالة كلّ النواب المعارضين مجتمعين، لن تؤدّي قانوناً إلى الإطاحة بالبرلمان، طالما أنّ عددهم يقلّ عن نصاب "النصف زائداً واحداً"، وأنّ أقصى المأمول من نتائجها الذهاب لانتخاباتٍ فرعيّة لملء الفراغ لن تقدّم ولن تؤخّر، هذا إذا "انحشرت" السلطة السياسية ودعت إليها.
لكنّ هذا الرأي الذي قد يكون "سليماً" من الناحية القانونية، لا يبدو كذلك لا ميثاقياً ولا وطنياً، وربما من الناحية الواقعية، باعتبار أنّ التعامل مع أيّ استقالة "جماعية" لنواب "المستقبل" و"القوات" و"الاشتراكي"، بعد "الكتائب" والنواب المستقلّين، لا يجوز أن يكون بهذه البساطة والتلقائية، لأنه سيشكّل عنوان "تجاذب" سياسيّ كبير، من دون نسيان عامل "الميثاقية" التي سيفتقدها المجلس تلقائياً باستقالة غالبية النواب السنّة والدروز، و"الميثاقية" هي للمفارقة من "الخطوط الحمراء" بالنسبة لبعض "رموز" النظام الحاكم، فضلاً عن رئيس المجلس نبيه بري الذي يرفض عقد جلسةٍ واحدةٍ يغيب عنها مكوّنٌ من هؤلاء، فكيف بالحريّ أن يستمرّ برئاسة مجلس كامل يغيبون عنه.
"أضعف الإيمان"!
قد تكون الاستقالات البرلمانية "شعبويّة" بشكلٍ أو بآخر، خصوصاً أنّ وجود المعارضة داخل مجلس النواب ليس المشكلة، وأنّ النواب أو ممثّلي الشعب ليسوا عملياً من يجب أن يستقيلوا بعد "الكوارث"، باعتبار أنّهم ليسوا في موقع المسؤولية، بمُعزَلٍ عن بعض الاعتقادات الخاطئة في الأوساط الشعبيّة، وحتى في أوساط "الثوّار" الذين تعامل بعضهم مع النواب المعارضين كما لو أنّهم جزءٌ من "مافيا السلطة".
لكن، مع ذلك، فإنّ "اليأس والاستسلام" الذي تحدّث عنه بعض النواب المستقيلين يبدو، في مثل الظروف التي يعيشها لبنان هذه الأيام، "أضعف الإيمان"، أقلّه في ظلّ سياسة "الإنكار" التي يصرّ بعض المسؤولين على اعتمادها بعد أسبوع على "مجزرة" المرفأ، كما لو أنّ ما حصل لم يكن من أصله، أو أنّه "حادث عرضيّ" سيمرّ كما مرّ غيره.
من هنا، يصبح مشروعاً القول إنّ "الاستخفاف" بالاستقالات، ولو كانت "عشوائية"، وصولاً إلى "السخرية" منها، ليس الحلّ، ليس فقط لأنّ "الاستقواء" بمثل هذا الخطاب "المستفِزّ" ليس موفّقاً، في وقتٍ لم يجفّ بعد دم الشهداء الأبرياء، ولكن لأنّ الإصرار على "الإنكار" يعادل بحجمه، حجم الجريمة-الفاجعة، والنوايا الواضحة لدى كثيرين لتجاوزها بكلّ بساطة، أو ربما وقاحة...