دفعة واحدة، تحطّم السور الذي أحاط بحكومة الرئيس حسّان دياب، فظهرت عارية. في الخارج، سحبوا الغطاء عنها. وفي الداخل سحبوا البساط من تحت رِجليها. وهكذا، «كان صَرْحاً مِن خَيالٍ فَهوى». ليس مستغرباً أن يُقال عنها الكلام القاسي هنا وهناك. المستغرب أنّ وزراء الحكومة نفسها كانوا ينتظرون أن تقع البقرة ليسلخوها...
مثير ما قاله أمس، في مجالسه، أحد الوزراء «النادمين»: «طفح الكيل. خدعونا. عندما عرضوا علينا دخول الوزارة، في كانون الثاني، كان الناس في الشارع وكنّا معهم. صدَّقنا أنهم سيتركوننا نشتغل ونحاول إنقاذ البلد من الكارثة المالية والاقتصادية. وبصراحة، كنّا نراهن على أنّ عمل الحكومة سيكون مضبوطاً برقابة دولية صارمة، وأنها لن تكون أسيرة للقوى السياسية. واعتقدنا أنّ الوزراء الذين يمثّلون الأحزاب، من غير الحزبيين، لن يكونوا خاضعين لها إلّا بالحدّ الأدنى، وأنهم لن يقاتلوا دفاعاً عنها. وصدّقنا أنّ زعماء الطوائف لن يهربوا من حَتميات الإصلاح، لأنه السبيل الوحيد إلى استعادة الدعم الدولي».
ويضيف: «كنتُ أقول، حتى الفاسدون سيرضخون للإصلاح لأنّ لهم مصلحة في استمرار الدولة التي نهبوها، وأنّ هاجسهم الوحيد هو تجنّب المحاكمة والمحاسبة، وأنّ هؤلاء سيضطرون إلى التخلّي عن بعض نفوذهم وإمرار الخطط الإصلاحية. وفي النهاية، سيقبلون بتسوية تقضي بأن يعيدوا طوعاً إلى الدولة بعض الأموال التي نهبوها، مقابل أن يحافظوا على وجودهم. ولكن التجربة أظهرت أنّ رهاناتنا المتفائلة لم تكن إلّا سراباً. فحتى التسوية رفضوها. وكانت القوى السياسية المسيطرة على الحكومة تدير ظهرها لآراء وزرائها وتُجبرهم على خيارات لا يقتنعون بها وتعاكس أي توجُّه إصلاحي».
يُبدي الوزير ندماً على دخوله تجربة الحكومة الحالية، ويقول: «لا أريد أن يكون دخولي العمل السياسي، للمرة الأولى، بهذا المقدار من السوء وتحميل الضمير. لقد كانت 8 أشهر صعبة، مليئة بالتخبّط والتضارب والعجز. ومن الداخل، صورة الحكومة أكثر شناعة بكثير. لقد ذُهِلنا بأنّ القوى السياسية لم تشبع من عمليات النهب التي ارتكبتها على مدى سنوات، وأنها تريد الاستمرار في تقاسم ما بقي من موارد للدولة. وهذه القوى تمارس كل أساليب الخداع والتمييع، وتأخذ الحكومة مطيّة لها. ولذلك، لم نستطع تحقيق أيّ خطوة إصلاحية، ولو صغيرة. وكل الخطوات والخطط تم تفخيخها لتخدم السياسيين».
والأنكى، يضيف الوزير، «أنّ أركان هذه المنظومة يتعاونون للاستمرار في السلطة، كلّ من موقعه. فالقوى التقليدية الفاسدة تتغطى بنفوذ «حزب الله» لتستمر. وهذا ما يؤدي إلى تداخل الضغوط الدولية من أجل الإصلاح مع العقوبات على «حزب الله»، وتصبح مسألة الإنقاذ رهينة نزاعات المحاور، وحصوصاً بين الولايات المتحدة وإيران. ولذلك، في صريح العبارة، إنّ حكومتنا كانت حكومة الانتظار التي أرادتها إيران و»حزب الله» لإمرار الوقت حتى تتبلور معطيات جديدة للنزاع، أي حتى الخريف تحديداً، وتظهر نتائج المعركة الرئاسية في واشنطن».
ولكن، يُسأل الوزير «النادم»، لماذا بقيتم داخل لعبة المخادعة حتى اليوم؟ ولماذا كنتم تدافعون عن نهج الحكومة بلا تحفّظ، وتصوِّرون الواقع للرأي العام، خلافاً لذلك؟ أليست شهوة البقاء في السلطة هي التي تُفْسِد أشخاصاً مثلكم، لا غبار على مسيرتهم الشخصية والمهنية والعلمية، وتدفعهم إلى السكوت والشهادة زوراً؟ يجيب: «أعترفُ بالخطأ. كنّا دائماً، أنا وزملاء آخرين، نرفع الصوت مطالبين بتصويب المسار. وعلى رغم فشلنا، بقينا نراهن على الصبر لعلّ الفرصة تتاح لتحقيق الإصلاح. وأعترفُ أيضاً بأننا كنّا نساير الأقوياء في السلطة بالالتفاف حول الفساد من دون الدخول فيه. فهؤلاء الأقوياء يحاصرون الحكومة تماماً، ولا حَوْل لنا ولا قوة. ولكن، جاءت كارثة المرفأ بمثابة الصدمة التي قطعت حَبل انتظارنا وصبرنا. فنحن لا يمكن أن نتصوَّر أنفسنا يوماً، ولا أن ندوِّن في سجِّلنا أننا جئنا إلى الحكومة جَلّادين، مع الفاسدين وضد الشعب. وصحيح أننا حتى اليوم غطّينا المسؤوليات عن الفساد، وهذا أمرٌ نندم عليه، لكننا لن نغطي المسؤوليات عن هدر دماء الأبرياء. ونحن نطالب بكشف الحقائق تماماً حول التفجير، ومن دون مماطلة أو تمييع، حتى بإشراف أو مشاركة دولية».
هذه الاعترافات التي باحَ بها الوزير «النادم» في مجلسه الخاص لم يستغرب أحد مضمونها. لكن المذهُل هو أنها جاءت على لسان وزير بقيَ يُطلق في العلن عكس هذا الكلام، ويدافع عن الحكومة في وجه الانتقادات، ويتبجَّح بخطواتها الإصلاحية.
وتالياً، في تقدير المتابعين، لا فضل للوزراء ورئيسهم، بتقديم استقالاتهم، لأنّ ما فعلوه جاء تلبية للرغبة في إسقاط الحكومة بعد انحسار الدعم الداخلي والخارجي عنها. وهذه الاستقالات لم تتمّ بدافع الحسّ بالمسؤولية.
فبعض المستقيلين تجاوبَ مع مطالب القوى النافذة بإطاحة الحكومة في هذا الظرف، لغايات معينة. والبعض الآخر أراد الفرار من المركب قبل غرقه بالكامل. وهذا ما بدأه وزير الخارجية السابق ناصيف حتي الذي شعر بالخطر باكراً.
وعلى الأرجح، يتولّى دياب إخراج تمثيلية الاستقالة وطرح الانتخابات المبكرة ضمن خطة تنفيس النقمة التي انفجرت شعبياً بعد كارثة المرفأ، تماماً كما تولّى الرئيس سعد الحريري إخراج تمثيلية «الورقة الإصلاحية» لتنفيس نقمة الشارع بعد 17 تشرين الأول.
ففي الحالين، الطاقم السياسي ما زال هو الذي يُناور. وأمّا الآخرون فليسوا سوى دُمى متحرِّكة بين يديه. وهذا ما تعرفه القوى الكبرى المعنية بالشأن اللبناني.
حكومة دياب عاشت وانتهت بالمناورات بلا إصلاح، كما حكومة الحريري. والبلد دفع الثمن باهظاً. والتفكير مجدداً بحكومة للحريري بعد حكومة دياب سيعني تكرار السيناريوهات الفاشلة، وسيقود البلد من سيئ إلى أسوأ. وهل هناك بعدُ ما هو أسوأ؟