عندما إستقال وزير الخارجية ناصيف حتّي تعدّدت القراءات. قيل يومها إن الخطوة حصلت بعد تراكم التباينات بين رأس الدبلوماسية اللبنانية ورئيس التيار "الوطني الحر" النائب جبران باسيل. وحُكي أيضاً عن عدم رضى حتّي بشأن تعاطي الحكومة أو رئيس الجمهورية ميشال عون مع العواصم عبر المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم. لكن الصورة إتّضحت بعدها، ليتبيّن أن وزير الخارجية قفز من المركب الحكومي الذي كان يغرق في بحر مشاريع التسوية القادمة التي وصلت الى مسامع حتّي عبر وزير الخارجية الفرنسي.
يومها ظهر ان القرار إتّخذ بالدخول في مرحلة لبنانية جديدة، نتيجة أسباب عدة، منها لقطع فرنسا الطريق على التمدد التركي في سباق باريس وانقره في حوض المتوسط، ولتثبيت فرنسا نفوذها في المساحة اللبنانية في صراع الإقليم المتواصل بأبعاده الدولية. جاء تفجير مرفأ بيروت مفاجئاً، مما سرّع في الخطوات الفرنسية التي تظهّرت في وقائع زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون الى العاصمة اللبنانية.
وعندما تحدّث عن وجوب تأليف حكومة وحدة وطنية في لبنان للبدء في إصلاحات سريعة للحدّ من الإنهيار الإقتصادي والاجتماعي، بدأ مسلسل إستقالات الوزراء. سرّب هؤلاء أنفسهم معلومات عن نواياهم بالإستقالة، فكانت وزيرة الإعلام منال عبدالصمد هي الأسرع، تبعها آخرون في كتابة نصوص الإستقالة. كادت تهرّ الحكومة لولا الوساطات والضغوط التي حصلت على عدد من الوزراء، فإستمهل بعضهم الإقدام على الإستقالة، بينما لم ينفع إقناع وزيري البيئة والعدل بالبقاء. مما جزم بأنّ الحكومة إهتزت ولم تعد قادرة على الصمود.
كانت القوى السياسية التي تحضن الحكومة تتمسك بها كورقة في مساحة التفاوض الجارية، لا غير. لكن رئيس الحكومة حسان دياب قام "بالنتعة غير الموفقة"، جراء طرحه إنتخابات نيابية مبكرة. إمتعضت كل القوى من إقتراحه، وقطع بعضهم الإتصال المباشر به. كان رئيس المجلس النيابي ينوي مسبقاً عقد جلسة نيابية لمساءلة الحكومة، وهو كان دعا مكتب المجلس للإجتماع نهار الإثنين من أجل ذلك. لكن يُرجّح أن يكون بري إستعجل في الدعوة للجلسة بعدما وجد أن دياب رمى كرة الأزمة في ساحة النجمة. حاول دياب الرجوع عن "النتعة"، لكن بري تمسك بدور المجلس النيابي الطبيعي. هنا شعر "حزب الله" أنه خسر ورقة الحكومة التي كان يتمسك بها لتحسين الشروط في التفاوض لا غير.
بالطبع، كل القوى السياسية الحاضنة للحكومة حمّلت دياب مسؤولية التأزيم السياسي، لكن رئيس الحكومة استعان بمدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم لإيجاد تسوية تمنع عقد الجلسة النيابية وتُنقذ حكومته. لم يحصل التجاوب مع طلب دياب الذي صُنّف أنه تدخلٌ في شؤون السلطة التشريعية وتعدٍ على صلاحيات غيره. الخطير بالنسبة لهؤلاء أن إقتراح الانتخابات المبكرة يهدف عملياً إلى سحب الأكثرية من قوى "8 آذار" لصالح خصومهم الذين يطالبون بإنتخابات مبكرة مبنيّة على أساس "وجود سخط مسيحي حالي من السلطة، قد يُفقد التيار البرتقالي أعداد نوّابه الحاليين".
علما أنّ تراجع التيار "الوطني الحر" في حال حصل، يعني اولاً سحب الغطاء المسيحي النيابي عن التفاهم مع "حزب الله"، وهو يشكّل مطلباً اميركياً ضمنياً، لكن الأخطر بالنسبة لهؤلاء أن المجلس النيابي المقبل هو من سينتخب رئيس الجمهورية. مما يفسّر جوهر الطرح الهادف لإجراء إنتخابات مبكرة. في أي حال، أعلن دياب إستقالة حكومته، وحاول فيها التنصّل من اي مسؤولية سابقة وحالية. لكن طُويت صفحته الآن وبات في نادي رؤساء الحكومات السابقين بعد تصريف الاعمال القائم حالياً. إلى متى يمتد التصريف من دون تأليف حكومة؟.
تفيد المعلومات أن هناك نيّة لتأليف حكومة سريعا، تمتص الصدمات التي تلقاها لبنان، وتحد من الإنهيار. هذا يعني ايضا استجابة للتمنيات الفرنسية الصادقة ازاء لبنان. مما يؤكد أن حكومة الوحدة الوطنية هي خيار نهائي. هذا ما تم استعراضه في اجتماع عقد في عين التينة ليل الاثنين وجمع إضافة لرئيس مجلس النواب نبيه بري كلاً من معاونه النائب علي حسن خليل، ومعاون الأمين العام لحزب الله حسين الخليل، والنائب جبران باسيل. ما عُلم عن الإجتماع أن الأبواب الإيجابية مفتوحة، وأن كلّ ما قيل عن حسم أسماء لتسميتها لرئاسة الحكومة ليس دقيقاً.
لكن بمجرد انعقاد الاجتماع وبروحية ايجابية، يوحي اولا بالتنسيق بين حلفاء اتفقوا على رص صفوفهم، ووضعوا الأولوية: تسهيل تأليف حكومة جامعة سريعا لمعالجة التدهور الداخلي. أتى بعدها رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط الى عين التينة ليضيف إيجابية أخرى بإتفاقه مع رئيس المجلس على ذات المعايير والانفتاح والتسهيل.
بالطبع، وقبل ان يُعلنوا، يرغب كل هؤلاء بتسمية رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في التكليف من أجل التأليف الحكومي، لكن ينتظرون ما يريده "الشيخ سعد" الذي يبدو أنه ينتظر محطات في الأيام المقبلة: أولا، زيارة الموفد الأميركي ديفيد هيل الى بيروت الجمعة المقبل حاملا معه أجوبة فيما خص ترسيم الحدود الجنوبية. وبحسب المعلومات فإن الأجواء توحي بالإتفاق اللبناني-الأميركي، وسينعكس ايجاباً على مسار السياسة اللبنانية. ثانياً، يُنتظر ان يمر تاريخ ١٨ اب موعد صدور الحكم الدولي في قضية اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري.
ثالثاً، لم يتّضح بعد في بيت الوسط الرأي السعودي، علما ان الفرنسيين والمصريين أوحوا بوجود إجماع عربي ودولي على انقاذ لبنان عبر حكومة جامعة، للبدء بالإصلاحات الإقتصادية. لا يعني ذلك ان اسم الحريري بات نهائيا من دون أسماء بديلة قد يقدّمها المذكور نفسه، في حال لم يقبل ترؤس حكومة حالياً. تتعدد أسماء الشخصيات المؤهلة لتولي هذه المسؤولية، وتظهر في حينها.
لذا، يُمكن إعتبار الأجواء ممتازة في هذا السياق السياسي الداخلي والخارجي. لكن هناك محاولات إسرائيلية لإرباك المشهد اللبناني، كما بدا في تحريض رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو على "حزب الله" من خلال تفجير مرفأ بيروت والإيحاء ان المسؤولية تقع على الحزب "الذي يخزّن صواريخ في أماكن سكنية". الأخطر من التحريض الإسرائيلي هو تصديقه من قبل قوى لبنانية تتمترس في جبهة مشاكسة لمشروع الحزب السياسي والمقاوم.