لم تنتهِ تردّدات انفجار مرفأ بيروت الهائل بعد. آخر تجلّياتها تمثّل بـ"استسلام" رئيس الحكومة حسّان دياب أمام "المؤامرات" التي لطالما شكا منها، وإعلان استقالته، متذرّعاً بـ"اكتشافه"، المتأخّر ربما، بأنّ "منظومة الفساد أكبر من الدولة".
لكنّ استقالة دياب، التي كانت مُستبعَدة حتى الأمس القريب، لم تأتِ نتيجة مباشرة لـ "مجزرة المرفأ"، بخلاف ما يحاول البعض الإيحاء. لو كانت كذلك، لحصلت في الرابع من آب، ولشكّلت عنواناً "راقياً" لتحمّل المسؤوليّة، ولو معنويّاً، كما يحصل في كلّ الدول الحضاريّة.
إلا أنّ الاستقالة لم تأتِ سوى بعد نحو أسبوعٍ على الحادث، وبعد بدء "التوظيفات السياسيّة" له، والأهمّ أنّها جاءت بعد "تناغم" دياب مع طرحٍ بادر إليه الكثير من خصومه، ألا وهو الانتخابات النيابية المبكرة، تمهيداً "لإنتاج طبقة سياسية جديدة"، كما قال.
لم "يصمد" دياب بعد إعلانه هذا أكثر من 48 ساعة، لم تخلُ من "التشنّج" بينه وبين "عرّابيه"، إن جاز التعبير، ما دفع الكثيرين إلى القول إنّ الانتخابات المبكرة هي التي "أطاحت" عملياً برئيس الحكومة... قبل أن "تطير" معه!.
"الخطيئة الكُبرى"!
صحيحٌ أنّ العلاقة بين دياب ومؤيّديه، وعلى رأسهم فريق "العهد"، إضافة إلى ثنائيّ "حزب الله" و"حركة أمل"، لم تكن في أحسن أحوالها في الفترة الأخيرة، إلا أنّ أيّ حديثٍ عن نوايا بإقصائه أو استبعاده لم يُرصَد، بل إنّ كلّ المحسوبين على "العهد" كانوا "يفاخرون" بأنّ الحكومة باقية، رغم "علّاتها"، حتى الانتخابات النيابية المقبلة.
كلّ ذلك كان قائماً قبل السبت الماضي، حين ارتكب الرجل "الخطيئة التي لا تُغتفَر"، والتي دفعت "عرّابيه" إلى "الانقلاب" عليه بلا أسف، وذلك حين أعلن نيّته طرح الانتخابات المبكرة على طاولة مجلس الوزراء، وذهب إلى حدّ منح القوى السياسيّة مهلة شهريْن للاتفاق على إجرائها، إلى جانب غيرها من "الإصلاحات البنيويّة".
لم تكن "المشكلة" في الطرح فقط أنّه جاء متناغماً مع طرح خصوم "العهد" الذين بدأوا التلويح بالاستقالة من مجلس النواب، بهدف تحويل الانتخابات المبكرة إلى "أمر واقع" يُفرَض فرْضاً على "العهد"، ولا لكون الأخير يعتبر مثل هذه الانتخابات "انقلاباً" على نتائج الانتخابات الماضية، ومحاولة لتغيير الأكثرية النيابية، ولكن قبل ذلك لأنّه جاء "أحادياً" من رئيس الحكومة، من دون أيّ تنسيقٍ مع أحزاب وقوى الأكثرية، المفترض أنّها من تغطّيه.
ولعلّ ما أثير عن "استياء" كلّ من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، ومن خلفهما "حزب الله"، من طرح دياب، واعتبارهما أنّه شكّل "تجاوزاً للخطوط الحمراء" الممنوحة له، يكتسب في هذا السياق، الكثير من الصدقيّة، بدليل "إسراع" بري بالدعوة لجلسة "مساءلة" للحكومة، وإصراره على "تسريب" النيّة بإقالة الحكومة فيها، ما لم تستقِل من تلقاء ذاتها قبل ذلك الموعد.
لا انتخابات ولا من يحزنون!
يمكن القول إنّ "خطيئة" دياب بالحديث عن انتخاباتٍ مبكرة لم تكن إلا "القشة التي قصمت ظهر البعير"، باعتبار أنّ قوى الأكثرية لم تكن "راضية" عن أدائه، من رئيس مجلس النواب الذي "لم تركب الكيمياء" بينه وبين دياب منذ وصوله إلى السراي، وهو الذي لم يُخفِ يوماً "تفضيله" لرئيس الحكومة السابق سعد الحريري عليه، إلى رئيس الجمهورية الذي لم يُخفِ "امتعاضه" من كثرة "شكاوى" دياب، فضلاً عن "إساءته" إلى العلاقات مع فرنسا على خلفيّة زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان قبل انفجار المرفأ.
وإذا كانت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان بعيد الانفجار، وحديثه عن ضرورة تشكيل "حكومة وحدة وطنية"، هي التي دفعت قوى الأكثرية إلى إعادة النظر بنهجها، وتلقائياً بسياساتها، فإنّ ثمّة من يؤكد أنّ المناخ المحلّي والدولي أصلاً لا يدفع باتجاه انتخابات مبكرة، بل إنّ "التضحية" بدياب جاءت على طريق "الإطاحة" بهذه الانتخابات عن بكرة أبيها، خصوصاً إذا ما صحّت المعلومات عن أنّها أتت نتيجة "صفقة" مع "تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" أفضت إلى صرفهما النظر عن فكرة "الاستقالة" من البرلمان، بضغطٍ من "القوات اللبنانية" ورئيسها سمير جعجع.
ويقول العارفون ان "لا توافق" أصلاً على مبدأ الانتخابات المبكرة حتى بين المُعارضين للحكومة أنفسهم، فتيار "المستقبل" مثلاً ليس متحمّساً لها بالمُطلَق، وإلا لكان أول المستقيلين من المجلس، لأنّه يدرك أنّ استقالته من شأنها "تعطيل" البرلمان تلقائياً، من البوابة "الميثاقية"، وهو لا يعتبر هذه الانتخابات فقط "مضيعة للوقت" كما ترى قوى الأكثرية، بل يخشى من أنّ إجراءها في هذا التوقيت، ووفقاً للقانون الانتخابيّ ساري المفعول، والمفصَّل برأيه على قياس "العهد"، قد تشكّل "نكسة" له بالمعنى الحرفيّ، وعلى المستوى الشعبيّ.
ويضيف العارفون إلى هذا المعطى، "الخلاف" الفعليّ على القانون الانتخابيّ الذي ستُجرى على أساسه الانتخابات، خصوصاً أنّ كثيرين، ربما باستثناء "القوات اللبنانية"، مقتنعون بأنّ الانتخابات المبكرة بموجب القانون الحالي، لن تكون أكثر من "خدعة" ستؤدّي إلى "تكريس" الطبقة السياسية الحاليّة، ولو مُنيت ببعض الخسائر "الموضعيّة"، علماً أنّ علامات استفهامٍ تُطرح على هذا الصعيد حول استقالة نواب "الكتائب" ودعوتهم لإجراء انتخابات وفق قانونٍ جديد، وهم يدركون أنّ البرلمان هو المخوَّل بإقرار القانون الجديد، ما كان يستدعي العمل عليه قبل الاستقالة، بمُعزَلٍ عن الوظيفة "الشعبويّة" الآنيّة التي تحقّقها الأخيرة.
"السيناريو" نفسه...
في النتيجة، وبعيداً عن الاستهلاك الإعلاميّ والسياسيّ، يبدو الثابت أنّ التوافق الفعلي على الانتخابات المبكرة ليس متوافراً، بل إنّ هناك من بدأ يُعِدّ العِدّة للتمديد للبرلمان الحاليّ، لا لتقصير ولايته، بحجّة "الظروف القاهرة" التي قد تكون مقنعة إذا ما بقيت الأوضاع على حالها، أكثر ممّا كانت مُقنِعة في السابق.
ولا يبدو غياب التوافق هذا مثار جَدَل، ليس فقط لأنّ طرح هذه الانتخابات أدّى إلى "تضحية" قوى الأكثرية برئيس "حكومتها"، إن جاز التعبير، ولكن أيضاً لأنّ قوى المعارضة كانت قادرة على فرضها بالضربة القاضية، لو أرادت ذلك، وهو ما لم يحصل، وما لا يبدو أنّه سيحصل في القريب العاجل، علماً أنّ ثمّة من يجزم بأنّ الانتخابات الفرعية، المفروضة قانوناً بعد استقالة عددٍ من النواب، "غير واردة" في الوقت الحاليّ.
وبين هذا وذاك، تبقى الأمور "مرهونة" بالفوضى التي يُتوقّع أن تتمدّد أكثر في القادم من الأيام، وسط "ترجيحات" بأن يتكرّر "سيناريو" ما بعد استقالة الحريري على خلفيّة "ثورة" السابع عشر من تشرين الأول، لجهة الشروط والشروط المُضادّة، وصولاً ربما إلى "البحث" عن حسّان دياب آخر...