لا جديد في الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي سوى توقيته؛ فقد تم اختيار التوقيت بعناية من قبل الأمريكيين والإسرائيليين لخدمة حملة ترامب الانتخابية وتعزيز فرص نتنياهو للاستمرار في رئاسة الحكومة ، وما عدا ذلك فقد كان قائماً ومنذ عقود بأساليب سرّية ومختلفة إلى أن زارت الوزيرة الإسرائيلية أبو ظبي وجالت في أرجاء جامع الشيخ زايد وتم استقبال الفرق الرياضية الإسرائيلية وإلى ما هنالك من خطوات بعضها تمت الإشارة إليها في الإعلام وأكثرها كانت تمرّ تحت الطاولة. والجديد الوحيد اليوم هو الإعلان عن قناعات وتصرفات وعلاقات تحكمها معادلة فُرضتْ على دول الخليج بخلق وهم العداء مع إيران والتطلّع إلى حياكة علاقات صداقة مع عدوّ مخادع يمتهن كرامة العرب جميعاً من خلال امتهان حقوقهم وهويتهم وتاريخهم في فلسطين وباقي الأراضي العربية المحتلة وحتى مع أولئك الذين استسلموا ووقّعوا المعاهدة مع العدو. والمشكلة التي مازالت قائمة هي ما أسماها السيد الرئيس بشار الأسد "حالة الإنكار" التي تنسحب على تاريخنا لمئات السنين والمسؤولة إلى حدّ كبير عن الكبوات والنكسات في هذا التاريخ ؛ فمنذ أن التقى الملك السعودي عبد العزيز بن سعود بالرئيس الأميريكي على متن سفينة عام 1945 واتفقا على أن النفط الخليجي مقابل حماية عروشهم وأن العملة الوحيدة المسموح استخدامها لبيع الثروة النفطية الهائلة هي الدولار، منذ ذلك التاريخ تمّ وضع نفط الخليج ومصير شعب الخليج في خدمة الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها "إسرائيل" وتم تحريم المساندة والدعم الحقيقيين للقضية الفلسطينية ، ومنذ مراسلات "حسين_مكماهون" ومؤتمر الصلح في باريس ولورانس وأمثاله يكتبون النصوص ويوقع عليها المسؤولون العرب الذين يتبعون هواهم في التفكير ويثقون برغباتهم ويتجاهلون الواقع الذي مازال يصفعهم مرة تلو الأخرى على وجوههم، منذ ذلك التاريخ قضي الأمر واستحال تغيير أي من المعادلات . واليوم نعيش حلقة مكررة مطابقة تماماً لحلقات عاشها أجدادنا وأوصلت العرب إلى هذا المصير بحيث تدّعي الإمارات أنها بهذا الاتفاق أوقفت خطة ضمّ العدو الصهيوني للأراضي الفلسطينية بينما يؤكد المسؤولون الإسرائيليون أن هذا غير صحيح وأن خطة الضم تأجلت قليلاً بناء على طلب ترامب ولاشك أنها ستُستأنف بعد الانتخابات الأميريكية وبعد انتهاء جدال نتنياهو الداخلي ، وخاصة أنها ستستفيد من كسر حلقة عربية أخرى وإضعاف بلد عربي آخر والذي لا شك ستحذو حذوه بلدان خليجية قريباً وهي التي رحبت بالاتفاق وستخطو الطريق ذاته مع الكيان الغاصب . ولكنّ الأهم في الموضوع والذي ربما لا يتوقّف عنده أو حتى يدركه الموقعون أنفسهم على هذا الاتفاق هو أن العدو لن يعاملهم معاملة الندّ للندّ أبداً وانهم هم وحدهم يعيشون في وهم الصداقة والتكافؤ بينما يعتبرهم العدو خدماً لمخططاته، ويعتبر مثل هذه الاتفاقات دليلاً أكيداً على قوة إسرائيل وتعاظم مكانتها الإقليمية وعلى ضعف العرب وبعثرة صفوفهم وانهيار مكانتهم الإقليمية والدولية ، وأحد أسباب هذا الانهيار هو الحروب التي خاضوها ضد إخوانهم في العراق وليبيا وسورية واليمن ؛ فهم لا ينسون أن أولى الطائرات التي قصفت بغداد انطلقت من الإمارات وقطر والسعودية، وأنه لو تمسكت هذه البلدان بمنع الطيران الأميركي من استخدام أجوائهم لضرب العراق لما أصبح العراق لقمة سائغة للمعتدين ، وأنه لو كان العراق وسورية وليبيا واليمن في عزّ قوتهم لما تمكّن الأعداء من فرض شروطهم على الإمارات ومن سيليها من دول الخليج في الاستسلام للكيان الصهيوني . والحقيقة الثانية الغائبة عن أذهان هؤلاء هي أن الإسرائيلي لا يفرّق بينهم وبين الفلسطينيين فكلهم في النتيجة عرب بالنسبة له وهو مدفوع بالحقد عليهم وعلى تاريخهم وحضارتهم والطمع بارضهم وثرواتهم ، ولو كان لديه أدنى نية لاحترام من يوقع اتفاقاً معه اليوم لكان برهن من قبل على احترامه بنود اتفاق كامب ديفد ووادي عربة وأوسلو والتي طبق العدو الصهيوني ما يناسبه منها وأهمل كلّ ما يمكن أن يحقق مصلحة الطرف الآخر ، ومع ذلك فإن من يوقعون معه اليوم إما أنهم لا يقرأون فصول التاريخ هذه أو أنهم لا يريدون لأي أمر واقعي أو تاريخي أن ينغّص عليهم نشوة أوهامهم بأنهم يقومون بما يمكن أن تحمد عقباه غير مدركين أنهم يحكمون على أنفسهم وبلدانهم وأجيالهم قبل كل شيء بالضعف والتبعية وانعدام الوزن والقيمة في الحاضر والمستقبل. والمشكلة انهم يفعلون كلّ ذلك بعد التطورات الإقليمية والدولية والتي وفّرت لهم العديد من الخيارات الدولية بعد أن كشفت هذه المرحلة هشاشة الدول الغربية ووهنها وفتحت الباب على مصراعيه لخيارات أخرى تمثلت في الصين وروسيا وأقطاب قادرة على أن تقدّم كلّ البدائل مع الحفاظ على كرامات الدول وقرارها المستقلّ. وإذا كان المكتوب يُقرأ من عنوانه فإن علاقات الكيان مع دول الخليج يلخصها تاريخها السري والذي اعتمد على زيارات رؤساء الموساد الإسرائيلي السابقين إلى هذه الدول منذ عقود واليوم ستكون زيارة أول وفد إسرائيلي للإمارات برئاسة رئيس الموساد مما يؤشّر إلى نوع العلاقة التي يتطلع الكيان لبنائها مع هذه الدول وهي علاقات فيها الإسرائيلي هو السيد؛ وما على حكام الخليج سوى تلقي الأوامر من رئيس الموساد الذي لن يألو جهداً لإضعاف هذه البلدان وتفتيتها وتحويلها إلى كيانات هامشية ينهبون ثرواتها ويستعبدون أهلها.
لن يفيد في هذه المرحلة الشتيمة والبكاء على الأطلال بل المهم هو وضع هذا الحدث في إطاره الصحيح وإعطائه فقط ما يستحق من التحليل والتفكير والانطلاق منه إلى ما يتوجب فعله اليوم ليس فقط لفلسطين وإنما لإنقاذ الحضور العربي في كافة بلدانه وفرز الغثّ من السمين في القول والفعل بعد الإضاءة على المفاهيم والتصرفات والإجراءات التي أوصلت الأمور إلى ماهي عليه. وأول مفهوم سقط في السياق العربي العام اليوم هو مفهوم الحيادية أو النأي بالنفس؛ فمن الواضح أن العرب جميعاً مستهدفون وأن الهدف ليس ابتلاع فلسطين فقط وإنما انتزاع أي عامل يمكن أن يسمح لأي بلد عربي أن يطمح ليكون قوة إقليمية، وتحويل هذه البلدان واحداً تلو الآخر إلى بلدان تنهشها الصراعات والتكتلات والأزمات الداخلية وتتحول إلى دول فاشلة كي يسهل على الكيان الغاصب بسط سيطرته العسكرية والاقتصادية والسياسية على المنطقة برمتها. وتصريحات العثماني الجديد بقطع علاقاته مع الإمارات بسبب الاتفاق هي غاية في النفاق والفجور وهو الذي يتمتع بأقوى العلاقات مع الكيان الغاصب ويعمل بالتوازي معه على تفتيت هذه الأمة وتحويلها إلى" كانتونات إخونجية" متصهينة تخدم الأقطاب الجديدة في المنطقة وتدفن الهوية العربية تحت براثن الاحتلال التركي والصهيوني والأمريكي والاستعمار والاستيطان والخيانة. في هذا المفصل التاريخي يجب الاعتراف أن الأدوات المستخدمة للمّ الشمل العربي لم تنجح أبداً لأسباب ذاتية وموضوعية، وأن التعويل على هذه الأدوات لن يجدي نفعاً ؛ إذ لابد من وقفة جريئة وصادقة مع مسار التاريخ ومواجهة كلّ أسباب الفشل والعمل مع المخلصين والصادقين والمؤمنين بالعروبة والمقاومة مهما صغر عددهم اليوم والاعتماد على الحلفاء الحقيقيين لإعادة الحياة والإعتبار إلى محور يأخذ كلّ هذه الهنّات والصعوبات والتحديات بعين الإعتبار ويبني على أسس جديدة، مع الإيمان أن البداية صعبة ولكنها بالتأكيد أفضل من الترنّح بين صفحات ماضٍ لم يقدّم لنا سوى الانتقال من سيء إلى أسوأ لأن ناصية القرار المستقل الحقيقي كانت مفقودة ولأن حالة الإنكار وعدم الاعتراف بحقيقة ما يجري وانعكاساته المحتملة على أجيال المستقبل شكّلا الممارسة الأعم والأشمل في تاريخ العرب. هذه ليست دعوة للقنوط بل على العكس هي دعوة لشحذ الهمم وإدراك حجم المخاطر والتحديات ولكن مع القناعة بضرورة التحرك السليم المتوازن واجتراح الأدوات الناجعة لأن الزمن مفصلي والمعركة مصيرية لمستقبل العرب جميعاً وليس لمستقبل فلسطين فقط ومع القناعة المطلقة بأن الانتصار هو دائماً حليف الشعوب المصمّمة على العيش الحرّ الكريم ودحر الأعداء والطامعين مهما عتوا وتجبّروا.