من دون "طنّة ورنّة"، مرّ "قطوع" المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، مع إصدارها أحكامها في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، والتي قضت بـ"براءة" ثلاثة من المتهمين الأربعة المحسوبين على "حزب الله"، في مقابل إدانة متهمٍ واحدٍ بالتورّط في الجريمة.
وبمُعزَلٍ عن "دلالات" هذا الحكم، وما ولّده من "خيبة أمل" لدى كثيرين من داعمي المحكمة، ممّن "استهجنوا" كيف تُرمى جريمة بحجم اغتيال الحريري على عاتق فردٍ واحدٍ، فإنّ اللافت كان غياب "الأصداء" على أرض الواقع، بعد "استنفارٍ" سياسيّ وأمنيّ امتدّ على مدى الأيام، وربما الأسابيع، السابقة لصدوره.
وإذا كان البعض "بالغ" في ترقّب حكم المحكمة، وصولاً لحدّ اعتباره "تاريخياً"، وربما "مصيرياً ومفصلياً"، فيما ذهب البعض الآخر لحدّ القول إنّ موقف رئيس الحكومة السابق سعد الحريري من شأنه الحكم على "مستقبله السياسيّ"، فإنّ "الاستنتاج" الأكثر واقعيّةً بعد صدور الحكم، بدا أنّ لا "مفاعيل" له، وأنّ ما قبله كما بعده...
تحليل سياسي؟!
صحيح أنّ اللبنانيين انقسموا، على جري عادتهم، في مقاربة الأحكام التي أصدرتها المحكمة الدولية، وفقاً للأهواء السياسيّة، بين من رأى فيها إثباتاً لـ"مصداقيّة" المحكمة، بدليل أنّها "برّأت" بكلّ بساطة ثلاثة من المتّهمين، في "سيناريو" لم يكن متوقّعاً بالمُطلَق، ومن اعتبر أنّها جاءت مفتقدة للحدّ الأدنى من المهنيّة المطلوبة، ما يؤكد أنّها لم تكن أكثر من "أداة سياسية" أريد منها تحقيق أهداف معيّنة.
لكن، على رغم هذا الانقسام الظاهر، ثمّة من رأى "توافقاً ضمنياً" بين المعسكرَيْن على "الخيبة" من محكمة لم ترتقِ لحجم المسؤولية المُلقاة على عاتقها، باعتبار أنّ جلسة النطق بالحكم تحوّلت، برأي البعض، إلى "تحليل سياسيّ"، في معظم حيثيّاتها، بدليل تكرار عبارة "لا أدلة" عشرات المرّات في نصّ الحكم، في مقابل تشريع الباب أمام استنتاجاتٍ، قد تكون واقعيّة، من وحي أنّ للاغتيال أبعاداً سياسية، وأنّه قد يكون مرتبطاً بالمواقف التي أخذها الحريري في الفترة الأخيرة من حياته، علماً أنّ هناك من وجدها "فرصة" لاستعادة الجدلية القديمة-الجديدة حول "الفرضية الإسرائيلية"، ومغزى استبعادها منذ اللحظة الأولى، طالما أنّ النتيجة أتت "سياسيّة" بشكلٍ أو بآخر.
وبمُعزَل عن الخلاصة النهائية للحكم، بعد تأكيد غياب الأدلّة عن تورّط أيّ جهةٍ بالاغتيال بصورةٍ مباشرة، كالنظام السوري أو "حزب الله"،اللذيْن لطالما كان الادّعاء يدفع باتجاه اتهامهما بالوقوف وراء الجريمة بشكلٍ أو بآخر،ما أوحى وكأنّ المتهم سليم عياش، الذي لم يتردّد البعض في القول أنّه لم تتمّ تبرئته أسوةً بزملائه من باب "حفظ ماء الوجه" ليس إلا، فإنّ من الانتقادات التي تمّ توجيهها للمحكمة، أنّ العبارات الأكثر ترداداً في نصّ حكمها النهائي كانت "من المرجَّح"و"من المحتمل"، في وقتٍ كان المفترض بالمحكمة أن تقدّم أجوبة يقينية على الأسئلة المطروحة منذ سنوات طويلة.
لكن، على رغم هذه "الخيبة" الواضحة، حتى لدى أشرس المدافعين عن المحكمة، ثمّة بينهم من اعتبر في الحكم النهائيّ دليلاً على "صدقيّة" المحكمة، وهي الخلاصة التي وصل إليها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، الذي شدّد على أنّ المحكمة أثبتت أنّها غير مسيّسة، بخلاف ما تُتّهَم به، بل اعتبر أنّ من لا يثقون بها بات عليهم أن يغيّروا رأيهم بعد النتيجة التي أفضت إليها، خلافاً لكلّ التوقّعات.
لا تداعيات
عموماً، وبعيداً عن السجال حول "مهنيّة" المحكمة، وما انطوى عليه حكمها النهائي في اغتيال الحريري، وهو الذي قد يستمرّ فصولاً في القادم من الأيام، خصوصاً في ظلّ التقديرات بـ "اسئتناف" القرار، ما قد يفتح المجال أمام إعادة المحاكمة من أساسها، فإنّ الواضح أنّ "القطوع" مرّ من دون أيّ تداعياتٍ سياسيّة، بخلاف كلّ ما أشيع.
ولعلّ "ارتياح" رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في حديثه للصحافيين بعد انتهاء جلسة النطق بالحكم، كان الدليل الأوضح والأسطع على ذلك، بعدما كثُرت التكهّنات حول "إحراجٍ" سيتعرّض له، بين المشاعر العاطفية والوجدانيّة من جهة، بوصفه نجل الحريري، وبين "العقلانية" التي ينبغي عليه أن يتحلّى بها، خصوصاً أنّ أيّ "تصعيدٍ" يذهب إليه في وجه "حزب الله" في حال اتهامه مباشرةً بالوقوف وراء الاغتيال، كان سينعكس تلقائياً على العلاقات الداخلية، وبالتالي على فرص ترؤسه أيّ حكومة مقبلة.
ويقول البعض إنّ "إحراج" الحريري تعزّز في الساعات الماضية، في ضوء ما تسرّب عن "ضغوطٍ" يتعرّض لها من قبل العديد من القوى الخارجية، وصولاً إلى حدّ الحديث عن "فرصة أخيرة" مُنِحت له، فإما يستغلّ حكم المحكمة لإعلان "الطلاق النهائي" مع "حزب الله"، وبالتالي ينخرط في "المواجهة" معه، مهما كان الثمن، وإما يخسر أيّ "حصانة" يمنحه إياها الخارج، علماً أنّ زيارة السفير السعودي وليد بخاري له قبل أيام إلى بيت الوسط بدت غنيّة في دلالاتها بهذا المعنى، تماماً كالبيان الذي صدر عن الخارجية السعودية بعد صدور الحكم، والذي انطوى على هجومٍ عنيفٍ وربما غير مسبوق على الحزب، وتوصيف له بـ "الإرهاب".
لكن، بين هذا وذاك، بدا واضحاً أنّ التداعيات السياسية لحكم المحكمة كانت "الغائبة الأكبر" عن المشهد، باعتبار أنّ الحكم جاء تحت سقف التوقعات، وربما الطموحات، وهو لم يسمح بأيّ "انقلابٍ موصوف" في المواقف إن جاز التعبير، ما ترك "الليونة" على حالها في التعاطي مع الاستحقاقات الداهمة، علماً أنّ كثيرين كانوا يترقّبون حكم المحكمة، اعتقاداً منهم أنّه سيكون "مفصلاً أساسياً" على خطّ الحسابات السياسية المرتبطة بتأليف الحكومة الجديدة، بل إنّ قرار تأجيل الاستشارات النيابية لتسمية رئيس الحكومة، من دون اعتراض المعنيّين الأوائل، كما كان يحصل في السابق، حمل أيضاً الكثير من المعاني على هذا المستوى.
ماذا لو؟
قبيل صدور حكم المحكمة الدولية، "اجتهد" كثيرون بإطلاق الأوصاف عليه، بين من اعتبره تاريخياً، ومفصلياً، ومن وصل إلى حدّ اعتباره "زلزالاً" سيساوي في نتائجه ارتدادات "زلزال" الاغتيال بحدّ ذاته قبل خمسة عشر عاماً.
لكنّ الحكم جاء ليدحض كلّ هذه "الافتراضات"، ليبدو واضحاً أنّ ما قبله في السياسة كما بعده، ولو حاول البعض "تجميل" هذا الواقع باعتبار أنّه كرّس أن "الجريمة السياسية لا يمكن أن تمرّ من دون عقاب"، أو أنّ الحكم ليس "نهاية المطاف"، وأنّ "المواجهة" مستمرّة.
لكن، بين هذا وذاك، ثمّة من طرح سؤالاً أكبر، فماذا لو أنّ هذا الحكم صدر عن القضاء اللبناني؟ ألم يكن ليؤدّي إلى "انتفاضةٍ" في وجهه من قِبَل "مجمّلي" حكم المحكمة قَبْل المعترضين عليه؟ ولِمَ لا تكون العِبرة بالعمل على تأمين "استقلالية" هذا القضاء أولاً وأخيراً؟!.