بعد أكثر من 15 سنة على وُقوع جريمة إغتيال رئيس الحكومة الراحل الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وبعد نحو 6 سنوات ونصف على إنطلاق المُحاكمة رسميًا في لاهاي في 16 كانون الثاني 2014، والتي إنتهت المُرافعات الختاميّة فيها في 21 أيلول 2018(1)، صدر الحُكم القابل للإستئناف في 18 آب 2020. وتفاوتت الآراء بشأن مَضمونه، بين أقليّة قبلت بالحُكم، وأغلبيّة خاب أملها منه، أو سخرت من مضمونه. فماذا يُمكن القول عن هذا الحُكم من ناحية تحليليّة وتقييميّة؟.
أوّلاً: بالفعل كان يُمكن عدم إضاعة كل هذه السنوات سُدى، وعدم تكبيد ماليّة لبنان مئات ملايين الدولارات، لأنّ حُكم المحكمة الدَوليّة إستند بشكل شبه كامل إلى معلومات وُضعت بتصرّفها من قبل المُحقّقين اللبنانيّين، وتحديدًا من قبل فريق عمل كان بقيادة (آنذاك) رئيس اللجنة الفنّية في فرع المعلومات التابع لقوى الأمن الداخلي اللبناني الرائد وسام عيد(2)، حتى لحظة إغتيال الضابط عيد بإنفجار عبوة ناسفة بموكبه لحظة مُروره في منطقة الشفروليه في 25 كانون الثاني 2008. وبالتالي، وعلى الرغم من مُواصلة التحقيقات بعد عمليّة الإغتيال، فإنّه لم يتمّ التوصّل إلى أيّ معلومات إضافية مُهمّة عن المُتورّطين والمُنفّذين، ما يعني أنّه بكل بساطة كان بإمكان المحكمة نظريًا الخروج بحكمها الأخير من أوّل جلسة لها، لأنّ العراقيل التي وُضعت أمامها حالت دون التمكّن من تحقيق أيّ تقدّم منذ البداية.
ثانيًا: إنّ أيّ محكمة محلّية أو دَوليّة، لا تقوم بالتحقيقات بنفسها، بل هي تُعوّل على أجهزة أمنيّة تقوم بهذه المهمة، وترفع لها نتائج ما توصّلت إليه. وبالتالي إنّ المحكمة الدَوليّة الخاصة بلبنان إستندت بطبيعة الحال إلى إفادات الشُهود، وإلى التحقيقات التي قام بها مُحقّقون دَوليّون عملوا لصالحها-بقدر ما سُمح لهم بالتحرّك على الأراضي اللبنانيّة، لكنّها إستندت خُصوصًا إلى التحقيقات اللبنانيّة في عمليّة الإغتيال. ومن الضروري التذكير أنّ العراقيل التي وضعت أمام المُحقّقين كانت هائلة، وهي تضمّنت عرقلة ميدانيّة في كثير من الأماكن بحجّة حماية الخُصوصيّة، وسرقة كومبيوترات خاصة من المُحقّقين عُنوة، وكشف هويّات الشُهود وتهديدهم علنًا، إضافة إلى تنفيذ حملات سياسيّة وإعلاميّة شرسة ضُد المحكمة الدَوليّة. والأهم من كل ما سبق، تمثّل في سلسلة طويلة من عمليّات التفجير والإغتيال الإرهابيّة، طالت شخصيات وطنيّة وسياسيّة وإعلاميّة وأمنيّة(3)، منها ما طال عمل المُحققين بشكل مُباشر، على غرار عمليّة الإغتيال الفاشلة التي وقعت في 5 أيلول 2006 ضُدّ المُقدّم سمير شحادة، مُساعد رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي آنذاك، والذي نجا بأعجوبة بينما إستشهد أربعة من مرافقيه، علمًا أنّ الضابط شحاده كان يتابع التحقيقات في قضية اغتيال الحريري، مُرورًا باغتيال الرائد عيد في العام 2008-كما سبق وذكرنا، وُصولاً إلى إغتيال مدير فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللواء وسام الحسن، في تفجير سيارة مفخخة في الأشرفية في 19 تشرين الأوّل 2012، ناهيك عن الضُغوط الكبيرة التي مُورست على هذه الوحدة الإستخباريّة الرسميّة، والتركيز على تفصيل قانوني بشأن تسمية فرع أو شعبة، للحدّ من سُلطاتها ولتقييد عملها.
ثالثًا: المَحكمة أنشئت تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المُتحدة، بسبب رفض مسؤولين لبنانيّين رسميّين أساسيّين التعاون معها آنذاك، وتصويت مجلس الأمن إيجابًا على تأسيسها وفق القرار رقم 1757، جاء بعد تسوية مع روسيا قضت بمنع إدانة أيّ حزب ككيان كامل وأيّ دولة، (حسب تصريحات لمروان حمادة) لأنّ هذا الأمر ليس من إختصاصها، والإكتفاء بالتالي بإدانة الشبكة المُنفّذة والأفراد المُنفّذين، وهذا ما حصل عند صُدور الحكم.
رابعًا: إنّ حكم المَحكمة الدَوليّة الذي دان سليم عيّاش، وبرّأ آخرين لغياب الدليل، نسب إنتماء هؤلاء إلى "حزب الله"، من دون إدانة قيادة "الحزب" أو النظام السُوري عند وُقوع الجريمة، لأنّ لا أدلّة ملموسة تُثبت ذلك من جهة، ولأنّ سُلطات وصلاحيّات المَحكمة تمنع ذلك أصلاً، بحسب القرار الدَولي رقم 1757 الذي أشرنا إليه.
خامسًا: حُكم المحكمة جاء ناقصًا بشكل فاضح، لأنّ جريمة بحجم جريمة 14 شباط 2005، لا يُمكن تنفيذها من دون تخطيط ومُراقبة يستمرّان لفترات زمنيّة طويلة، ومن دون قُدرات لوجستيّة ضخمة لتأمين هذه الكميّة الكبيرة من المُتفجرات، وخُصوصًا من دون تحرّك عشرات المُنفّذين على الأرض. وبالتالي إنّ الإكتفاء بإدانة شخص واحد في الجريمة، بغضّ النظر عن الحجج التي أعطيت، هي دليل على فشل ذريع.
في الختام، كان الأجدى بالمحكمة الدَوليّة إعلان عجزها عن مُتابعة التحقيق، قبل عقد كامل من الزمن على الأقلّ، لأنّ العراقيل التي رُفعت بوجهها، حالت دون تحقيقها أيّ تقدّم يُذكر يُضاف إلى الحقيقة التي كان قد كشفها أصلاً الرائد وسام عيد الذي كان باب قوسين أو أدنى من إستكمال تحقيقاته بشكل حرفي مُتقن ومُترابط، لولا إستشهاده.
(1) عقدت المحكمة الدَوليّة أكثر من 400 جسلة رسميّة، وإستدعت نحو 300 شاهد، وإرتكزت إلى أكثر من 5000 مُستند، إلخ.
(2) تمكّن الفريق بقيادة الرائد الشهيد عيد من تحديد أربع شبكات هاتفيّة كانت ناشطة في ما بينها قبيل وعند حُصول الإغتيال، وكان بدأ بكشف هويّات أصحابها من خلال ثغرات تمثّلت بإتصالات قام بها بعض هؤلاء بأقارب لهم قبل إطفاء هذه الهواتف بشكل نهائي.
(3) شهد لبنان سلسلة طويلة من الإغتيالات ومحاولات الإغتيال والتفجيرات الإرهابيّة، كانت بدأت في تشرين الأوّل 2004 بإستهداف الوزير السابق مروان حمادة، وطالت بعده على التوالي، كلاً من (مع حفظ الألقاب) رفيق الحريري، سمير قصير، جورج حاوي، إلياس المرّ، مي شدياق، جبران تويني، سمير شحادة، بيار الجميل، وليد عيدو، أنطوان غانم، فرانسوا الحاج، وسام عيد، سمير جعجع، بطرس حرب، وسام الحسن، محمد شطح (27 كانون الأوّل 2013).