حين استقالت حكومة سعد الحريري قبل أشهر، على وقع "الانتفاضة الشعبية" التي انطلقت في السابع عشر من تشرين الأول، كسر رئيس الجمهورية ميشال عون ما اعتُبِر "عُرفاً" قائماً على الدعوة "الفورية" إلى استشاراتٍ نيابيّة لتكليف رئيس حكومة جديد، مفضّلاً "التريّث" في ذلك ريثما يتّفق الأفرقاء على شكل الحكومة وبرنامجها.
يومها، تعرّض عون للسهام من كلّ حدبٍ وصوب، واتُهِم بـ"خرق الدستور" الذي ينصّ صراحةً على أنّ الدعوة للاستشارات ينبغي أن تكون "تلقائيّة" بعد أيّ استقالةٍ تقدم عليها أيّ حكومة، مهما كانت الأسباب والخلفيّات، وقيل إنّه بخطوته هذه "يصادر" صلاحيات رئيس الحكومة، المخوّل تشكيل مجلسه الوزاريّ كما يشاء، بالتعاون مع رئيس الجمهورية.
ومع أنّ "السيناريو" نفسه تكرّر بعد استقالة حكومة حسّان دياب، مع مرور أسبوعيْن كامليْن عليها، من دون أن تتمّ الدعوة لأيّ استشاراتٍ نيابيّة جديدة، فإنّ "الحملة" على ظاهرة "التأليف قبل التكليف" تبدو "خجولة" نسبياً، بل من باب "رفع العتب" ليس إلا، إن عُثِر على أثرٍ لها أصلاً، وكأنّ هناك "توافقاً ضمنياً" عليها، بشكلٍ أو بآخر...
الظروف استثنائية!
يحلو للبعض القول إنّ الظروف المُحدِقة بالبلاد اليوم، بعد انفجار الرابع من آب، وما ولّده من تداعيات "كارثية" على البلاد، هي "استثنائيّة"، ما يبرّر التعاطي "الاستثنائيّ"، وبالتالي غير التقليديّ معها، وفق نظريّة "لكلّ مقامٍ مقال".
بالنسبة إلى هؤلاء، وبعضهم ممّن "انتفضوا" سابقاً ضدّ مبدأ "التريّث" في الدعوة إلى الاستشارات، فإنّ ما يسري على "استحقاق" تأليف الحكومة اليوم، لا يشبه أيّ استحقاقٍ سابقٍ، ولا لاحقٍ على الأرجح، باعتبار أنّ أحداً لا يستطيع الادّعاء بأنّ الظروف طبيعيّة، ولو أنّ احترام القواعد الدستوريّة والقانونيّة لا يفترض أن يكون محلّ نقاش.
وخير دليلٍ على ذلك، أقلّه كما يقول أصحاب هذا الرأي، أنّ الحكومة اللبنانية لا تُشكَّل اليوم في الداخل اللبنانيّ فحسب، بل إنّها باتت "طبقاً دسماً" على "موائد" الخارج، وهو أمرٌ يفترض في الأيام العادية أن يكون موضع "إدانة واستنكار"، كونه يجسّد استباحة "فاقعة" للسيادة الوطنيّة، ولكنه، للمفارقة، محور ترحيب من دعاة السيادة قبل غيرهم، ممّن "يستبشرون" به لكسر "الحصار" الذي كان مفروضاً على البلاد، والذي "كبّل" حكومة تصريف الأعمال ومنعها من تحقيق أيّ إنجازٍ يُذكَر.
ولعلّ ما يُحكى عن "اتصالات" الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "الدورية" بالفرقاء اللبنانيين منذ زيارته "التاريخية" الأخيرة إلى لبنان، تعزّز هذا المنحى، معطوفةً على "تباهي" هؤلاء المسؤولين بدخول ماكرون على خطّ تأليف الحكومة، تارة عبر "تزكية" مرشّحٍ من هنا لرئاستها، وطوراً عبر تسريب "ملامح" لها، كان آخرها ما أثير عن ضرورة أن تكون "حكومة ذات مهمّة"، في وقتٍ تُسجَّل مفارقة "إشادة" بعض القوى "السياديّة" بأداء الرئيس الفرنسي، على رغم كونه يشكّل "خرقاً" للكثير من المبادئ التي لطالما نادت بها، والقائمة على منطق رفض التدخّلات بأشكالها كافة.
ماذا لو حصلت؟!
رغم "استثنائية" الظروف التي ينطلق منها كثيرون لتبرير "استثنائية" التعاطي معها، متجاهلين حقيقة أنّ الأحاديث عن "مرحلة استثنائية وحسّاسة" ترافق اللبنانيّين منذ الأزل، ولا يبدو أنّها ستفارقهم عمّا قريب، يتمسّك البعض بمقولة أنّ الدستور والقانون ليس "وجهة نظر"، ويرفضون أيّ "اجتهاداتٍ" تحرف النصّ القانونيّ عن سياقه الطبيعي والتلقائيّ، والذي يفرض على رئيس الجمهورية الدعوة إلى استشارات نيابية فور استقالة أيّ حكومة.
وثمّة من يقول في هذا السياق، إنّ مرحلة "الانتظار" شارفت على الانتهاء، وأنّ دعواتٍ صريحة في هذا الإطار ستصدر عن عددٍ من المعنيّين خلال الأيام القليلة المقبلة، لجهة ضرورة أن يعمد رئيس الجمهورية إلى إجراء الاستشارات لتسمية رئيس الحكومة من دون تأخير، على أن يقود مشاورات التأليف من تسمّيه الأكثرية النيابية طبقاً للدستور، بالتعاون والتنسيق مع رئيس الجمهورية، علماً أنّ أيّ مرشّحٍ لرئاسة الحكومة يستطيع أن "يعتذر" سواء بعد تسميته مباشرةً، أو بعد فترةٍ من تكليفه، إذا ما شعر أنّ مهمّته غير ميسَّرة، أو أنّ عقباتٍ تعترضه، وهو ما سبق أن حصل أكثر من مرّة.
وبمعزَلٍ عن "ترف" الوقت الذي تتطلّبه مثل هذه العمليّة، وفقاً للمحسوبين على "التيار الوطني الحر"، وهو غير المتوافر اليوم في ظلّ الظروف الحاليّة التي تتطلّب تشكيل حكومة بأسرع وقتٍ ممكن، بعيداً عن تضييع الوقت بتكليفٍ من هنا واعتذارٍ من هنالك، فإنّ ثمّة داخل هذا الفريق من يطرح على "المزايدين" على رئيس الجمهورية سؤالاً جوهرياً بسيطاً، ألا وهو "ماذا لو حصلت الاستشارات النيابية اليوم قبل الغد، أو حتى أمس قبل اليوم"؟.
وإذ يذكّر هؤلاء بأنّ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري كان شخصياً مَن طلب مِن رئيس الجمهورية تأجيل الاستشارات النيابية بعد تحديد موعدها قبل أشهر، تفادياً لـ "الإحراج" الذي كان سيتعرّض له، بعدما لمس أنّ النتيجة لن تكون لصالحه، يسألون، "هل سيكون الموقف اليوم مغايراً؟ أليس واضحاً أنّ الحريري الملتزم بالصمت، لم يحسم حتى الساعة أمره، وهو ينتظر نضوج المشاورات في الداخل والخارج، ليحدّد موقفه؟ وأليس أوضح أنه غير جاهزٍ البتّة للاستشارات اليوم، طالما أنّ مواقف حلفائه قبل خصومه لا تصبّ في صالحه"؟.
"محاصصات" وأكثر...
لا شكّ أنّ الحديث عن "توافق" على تشريع مفهوم "التأليف قبل التكليف" مرفوضٌ لدى شريحةٍ واسعةٍ من اللبنانيين، تعتبر في هذا المنطق "مصادرة صلاحيات"، وهي قد تكون مُحِقّة في ذلك، بشكلٍ أو بآخر.
لكن، مع ذلك، فإنّ الحديث عن "توافقٍ ضمنيّ"، من خلف الكواليس، أصبح أقرب إلى "الأمر الواقع"، شاء من شاء وأبى من أبى، ربما لأنّ صورة الاستحقاق الحكوميّ غير ناضجة، وأنّ أيّ استشاراتٍ تحصل اليوم قد تكون "شكليّة" لا أكثر، باعتبار أنّ اسم رئيس الحكومة مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بشكل الحكومة التي سيتمّ الاتفاق عليها.
وبين هذا وذاك، يبقى الأكيد أنّ المسؤولين في وادٍ والشعب في وادٍ آخر، بل إنّ "المصيبة" الكبرى تبقى في أنّ مفعول "زلزال" الرابع من آب انتهى على ما يبدو قبل أن تجفّ دماء الشهداء، أو يُعثَر على المفقودين، بعدما عادت "الشروط" وما خلفها من "محاصصات" لتتصدّر المشهد، بكلّ وقاحة...