بدون سابق انذار وبادّعاء لوجود “حدث أمني” يستهدفها قامت “إسرائيل” بعملية استعراض ناري مضيء ومدخن ومتفجّر استهدف أكثر من نقطة داخل الأراضي اللبنانية زعمت أنها مراكز ومواقع لحزب الله. وأنها تطلق النار كردّ فوري مباشر على محاولة تسلل جرّب الحزب القيام بها إلى أرض فلسطين المحتلة، وانّ رشقاً نارياً أطلقه متسللون عبر الشريط الشائك والسياج التقني الذي أقامته على الحدود استهدف الرشق على حدّ زعمهم جداراً لمعسكر.
بيد انّ “إسرائيل” رغم كلّ مزاعمها لم تقدّم دليلاً واحداً ولو صغيراً وتافهاً على انّ هناك عملية تسلل فعلية، او انّ هناك إطلاق نار صحيحاً، أو أنّ هناك أيّ عمل ذي طبيعة عسكرية أو أمنية يستهدف جنودها أو غيرهم، ولذلك ابتدعت عبارة “الحدث الأمني”، وهي عبارة استعملتها للمرة الأولى منذ أسابيع عدة عندما زعمت انّ مقاومين حاولوا استهداف دورية إسرائيلية في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، وأنها قتلت 3 منهم ثم تراجعت لتظهر انّ الفعل برمّته مسرحية لفقتها “إسرائيل” لتجني منها شيئاً يرتبط بجهوزية جيشها التي رفعتها ولا زالت منذ ان أدركت بأنّ حزب الله سيردّ على جريمتها بقتل المقاوم علي محسن في سورية.
كرّرت “إسرائيل” بالأمس المسرحية ذاتها، ولكن بصيغة ومدى ومفاعيل أبعد من الأولى، حيث إنها في قطاع يمتدّ على مسافة 15 كلم من الحدود وفي عمق يتعدّى الـ 5 كلم تقريباً أطلق جيش العدو أكثر من 150 قذيفة وصاروخاً وأجرى تمشيطاً جوياً بالحوامات لـ 5 مناطق وتسبّب بإحراق او تدمير او زعزعة أكثر من بناء ومنزل في عمل قد نصنفه الأول من نوعه منذ حرب 2006، وهو كما قلنا يتعدّى بأهميته وخطورته ما حصل في مزارع شبعا.
عدوان “إسرائيل” على قطاع ميس الجبل – رامية وبالشكل الذي حصل فيه يطرح أكثر من علامة استفهام وسؤال حول خلفيته وأسبابه وأصول التعاطي معه، لأنه من طبيعة تأسيسية لنمط جديد وقواعد سلوك واشتباك جديدة قد تمسّ بشكل فعلي بمعادلة الردع الاستراتيجيّ التي أرسيت في العام 2006 ما ينذر بانهيار الأمن والاستقرار على الحدود الجنوبية في الجانب اللبناني وكلها مسائل بالغة الخطورة تنذر بأشدّ العواقب انْ لم يُحسَن التعامل معها.
بيد أنه قبل مناقشة ما طرح من أسئلة ننوّه بأنّ لبنان الرسمي قرّر رفع شكوى الى مجلس الأمن (ولم يطلب انعقاده)، أما قوات اليونيفيل فقد أعلنت أنها ستحقق في ما حصل وهي التي لم تقم بأي إجراء أثناء العدوان لوقفه، وانتظرت ان تتوقف “إسرائيل” من تلقائها بعد أن نفذت جرائمها وقامت بحرب من طرف واحد لم يكن هناك من يقابلها بإطلاق نار او عمل أمني او عسكري فشلت كلياً في تقديم دليل حتى ولو كان طفيفاً على صدق ما تدّعيه، أما الجيش اللبناني فقد أصدر بياناً إحصائياً لما قامت به “إسرائيل” وللمواقع التي استهدفتها، ويبقى كلام المقاومة التي أشار سيّدها إلى العدوان دونما تفصيل مؤجلاً القول والفعل للساعات والأيام الآتية.
ومن الطبيعي أن لا نعوّل على مجلس الأمن وعلى الشكوى إليه، كما لا نعوّل على تحرك اليونيفيل التي لا ترى إلا بعين واحدة ترى فيها مصلحة “إسرائيل”، لذلك وعلى وجوبها فلا قيمة للشكوى الى مجلس الأمن، وكذلك لا ننتظر شيئاً من اليونيفيل. ويبقى ما نعوّله على الجيش والمقاومة وهما جناحا قوة لبنان.
وهنا نعود إلى أسئلتنا ونبدأ بخلفية “الثوران او الهياج” الإسرائيلي في مواجهة ما وصفته “إسرائيل” بأنه “حدث أمني” ونرى أنّ الأمر مرتبط بالحالة التي وضع فيها الجيش الإسرائيلي بعد جريمة قتل المقاوم في سورية، حيث إنّ هذا الجيش رفع جهوزيته واستقدم تعزيزات من الوحدات الخاصة المعززة بالدبابات، وأوحى أنه مستعدّ للردّ على أيّ عمل تقوم به المقاومة، كما أنّ هناك قيوداً فرضت على حياة السكان في المستعمرات على الحدود بمعنى أنّ “إسرائيل” وفي انتظارها الردّ من حزب الله تتكبّد خسائر معنوية ونفسية ومادية وتعاني من إرهاق في صفوف العسكريين والمدنيين على السواء وهو وضع لا تستطيع المتابعة فيه وتريد أن تغلق الحساب مع حزب الله لتعود إلى وضعها الطبيعي وتشجع حزب الله على الردّ حتى يغلق الحساب لأنّ أعصابها لم تعد تحتمل الانتظار.
ولهذا قامت “إسرائيل” بمسرحيّة مزارع شبعا وحاولت أن تهدي للحزب عملية لم ينفذها وفشلت، أما مسرحية اليوم فجاءت من طبيعة أخرى، حيث إنّ “إسرائيل” أرادت باستهداف المواقع المدنية الضغط على حزب الله ليدخل معها في سجال صاروخي ومدفعي تلتزم هي في عدم المسّ بالأرواح والأجساد، وتستفيد من انضباط حزب الله الناري الذي تعوّل عليه ثم تنتهي المبارزة بخسائر مادية ويطوى الملف. لكن حزب الله لم يعط “إسرائيل” ما تمنّت ولم يبادر الى إطلاق قذيفة واحدة وبقيت مسرحية “إسرائيل” منفذة بلاعب واحد وإطلاق النار من طرف واحد. ولكن… سيكون في المستقبل كلام آخر كما وعد سيد المقاومة ما يعني أنّ الحساب بات تراكميّاً عكس ما شاءت “إسرائيل” اختزالياً.
أما الهدف الثاني الذي رمت اليه من “الردّ على العمل المزعوم” والموصوف بأنه “حدث أمني” لم تفلح “إسرائيل” في تحديد طبيعته، فقد يكون ربطاً بما يتحضّر في مجلس الأمن من قرار حول تمديد مهمة اليونيفيل، حيث إنّ اميركا تريد تعديل الانتداب والتفويض لمنح القوى الدولية صلاحية التحرك والتعقب والتفتيش استقلالاً عن الجيش اللبناني، كما وتخفيض العديد الى الثلثين (10 آلاف بدل 15 ألف) وهي ترى انّ تسخين الوضع جنوباً عشية جلسة مجلس الأمن الناظر بالموضوع يساعد على الوصول الى الهدف.
ويبقى الهدف الثالث الذي لا بدّ من ذكره وهو متعلق بشأن داخلي إسرائيلي يتصل بالأزمة السياسية ومصالح نتنياهو الشخصية، ولأجل ذلك خطط للمسرحية – العدوان ان تنفذ في الوقت الذي كان فيه نتنياهو في صفد في شمال فلسطين (على بعد 15 كلم من مسرح العمليات) فيظهر كما انّ نتنياهو حتى في استراحته وسياحته مستمرّ في مهام الدفاع عن “إسرائيل” وليظهر المخاطر الأمنية التي يجب إيلاؤها الاهتمام بدل الانشغال بمواضيع داخلية.
أما النتائج حتى الآن فنستطيع القول بأنها فشل على صعيد استدراج حزب الله، الذي اكتفى بالمراقبة وحاذر الردّ في حينه حتى لا يعطي هدية لـ “إسرائيل”، لكنه طبعاً يحضر لردّ يؤكد فيه على قواعد الاشتباك ويثبت معادلة الردع، وهذا الأمر شديد الإلحاح والضرورة ولا يمكن التهاون او التساهل به لأنّ عدم القيام به يعني انّ “إسرائيل” بمسرحيتها وعدوانها نجحت في عملية الخروج من واقع استمرّ 14 عاماً حتى الآن وحقق استقراراً وأمناً للجنوب صنعته معادلة الردع المتبادل وليس أيّ شيء آخر.
أما على صعيد مجلس الأمن فقد تنجح أميركا في تخفيض عديد اليونيفيل ولا أهمية لهذا على لبنان والمقاومة، ولكنها ستفشل في إعطاء اليونيفيل حق العمل بمفردها وتفتيش الأماكن الخاصة، ما يعني انّ المناورة الإسرائيلية الأميركية، كما يعتقد لن تحقق ما رمت اليه في مجلس الأمن.
وبما أنه لا يهمّنا إنْ نجح نتنياهو او فشل في قطف ثمار المسرحية، كما لا ننتظر خيراً من الشكوى الى مجلس الامن، او من تحقيق اليونيفيل واتصالاتها، فإنّ جّل الاهتمام جنوبياً ولبنانياً وعلى صعيد محور المقاومة يتركز في الخيار الذي ستعتمده المقاومة رداً على العدوان بما يثبت قواعد الاشتباك ويرسخ معادلة الردع الاستراتيجي مع العدو.
ردّ يكون لمن شاء ان يعتبر فرصة لمراجعة مواقفه حيال المقاومة وسلاحها وسياسة لبنان الدفاعية التي لا تحقق أغراضها بطروحات عقيمة من قبيل الحياد والنأي بالنفس، فعدوان “إسرائيل” بالأمس حصل من دون أن يكون في الميدان أحد يتحرك قتالياً او يطلق ناراً حتى في الهواء وجاء لتحقيق أغراض عسكرية وأمنية وسياسية واستراتيجية واضحة على حساب لبنان وامن شعبه واستقراره ويكون مفيداً دعوة أصحاب الطروحات العقيمة تلك الى المبيت ليلة في ميس الجبل او عيثرون لإحصاء المقذوفات الإسرائيلية ولصياغة مواقفهم وفقاً لعددها.