إذا كانت الأولويات اللبنانية ترمي البلد في مساحة الإنشغال بتفاصيل حكوميّة، وسياسية داخلية لرسم معالم مرحلة صعبة، فإن ما يجري في الإقليم ينعكس على لبنان. يتراجع الصدى العربي، فيتقدّم الأتراك لإستعادة أمجادهم في مساحات أوسع من بلادهم. هل يريد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان أن يعيد أيام السلطنة العثمانية؟ كلّ خطواته التمددية في البحار، طمعاً بالسيطرة على ثروات الطبيعة من غاز ونفط، تؤكّد وجود خطة أردوغانية لفرض سطوته الإقليمية. لا يُمكن فصل التوسّع التركي إلى ليبيا، ثم قبالة قبرص واليونان، عن تلك الخطة الساعية لإعادة وضع اليد على بلاد العرب تدريجياً.
بدأ في سوريا، فساهم في زرع الفوضى في مساحاتها، وهو يقبض الآن على شمالها. ثم وصل إلى ليبيا ليزرع فيها نفوذاً مستداماً يستخدمه في السطوة على الثروات الطبيعية، ويهدّد جمهورية مصر العربية كلّ حين. ثم وزّع سفنه التي تُبحر بحثاً عن حقول النفط والغاز، في حوض شرق المتوسط. لذا، كان إهتمامه بمرفأ بيروت الذي تعرض لإنفجار: عرض المؤازرة لترسيخ وجود تركي مقابل الدور الفرنسي.
لا تقتصر حكايته في لبنان على ثروات بحره، ولا على موقع لبنان في حوض البحر الأبيض المتوسط، بل تمتد إلى محاولات تركية إعادة لبنان إلى بيت الطاعة. كل ما يذكره اللبنانيون من أجدادهم عن الإحتلال العثماني هي قصص سفربرلك، وجمال باشا السفّاح، وسرقة محاصيل الفلاّحين، والتجنيد الإجباري (السخرة) في جيش السلطان، والباب العالي، ورجالات الباشا، وما أخبرته أفلام الرحابنة، أو جسّدته الأعمال الفنية السورّية، وأهمها مسلسل "أخوة التراب".
صحيح أن التباين اللبناني يومها حصل بشأن ما حُكي عن دور عربي، لكن الخلاص من إحتلال الأتراك كان أولوية الشعوب.
فهل يريد أردوغان أن يعيد دور أجداده في لبنان؟.
فشلت أنقره في فرض مخططاتها في سوريا، ليقتصر نفوذها على أجزاء من شمال تلك الجمهورية العربية. لكن رغبتها واضحة في إستغلال أزمة لبنان للوصول إليه. ظهرت الخطة في إعادة نبش التاريخ لجهة أصول عائلات لبنانيّة. إنها لعبة خطرة، لجذب لبنانيين تحت عنوان الاصول التركيّة، وإغرائهم بجنسيّة، ثم إستخدامهم في خطّة التمدّد الديمغرافي، الثقافي، الإقتصادي، وصولاً إلى فرض نفوذ تركي في بلد لا مقدرة لديه على تحمّل مزيد من خطوات ربطته بساحات خارجية.
هل يعلم اللبنانيون أن معظمهم هم من أصول سورية ومصرية وإيرانية وعراقية ويمنية وفلسطينية وأرمينية ومن دول أخرى؟.
في حال أرادت كل دولة ان تعيد إحياء الأصول لعائلات لبنانية، سيُصبح البلد أممًا غير متحدة. مما يحتّم على الجمهورية اللبنانية أن تعطي الخيار لمن يرغب بالحصول على جنسية تركية تحت عنوان الأصول: إما الجنسية اللبنانية أو التركية. لا مجال للتفرّج، ولا للمكابرة. فالخطوة ستجر الينا ويلات جرّاء السماح لدولة بالتمدّد الى مساحتنا الوطنية. فماذا يريد أردوغان في لبنان؟ هل يريد فقط مشاكسة العرب لا غير؟ أم فرض نفوذ يستغله لاحقاً في ضرب النسيج اللبناني؟ ما المانع حينها من إستيلاد أجواء مذهبية وطائفية لنسف المعادلة اللبنانية، كالمسّ بالرموز والمراكز الدينيّة، كما فعل في آيا صوفيا؟.
إن اللعبة التركيّة خطيرة تجري وسط إشتعال نيران الأزمات في الإقليم. وبمجرد التساهل مع الخطوات الأردوغانيّة، يعني فتح الباب اللبناني لمزيد من التدخلات الخارجيّة في زمن تخلّي العرب عن لبنان. وهو الأمر الذي سمح لتركيا بالتمدد الى هذا البلد.