"هيدا يلّي كان بعد ناقصنا"... عبارة نسمعها في الشارع اللبناني، كلّما وقع إشكال أمني هنا وجرى الحديث عن فتنة مذهبيّة على الأبواب، وكلّما جرى الإعلان عن إكتشاف شبكة إرهابيّة تُحضّر لشنّ هجمات أمنيّة هناك، وكلّما قامت إسرائيل بتنفيذ إعتداء عسكري جديد على الحدود وتوعّد "حزب الله" بالردّ. فهل الأمن في لبنان مضبوط والإستقرار مَحفوظ، أم أنّه من المُمكن أن ننزلق إلى هُوّة أمنيّة في المُستقبل القريب–كما يُروّج ويُشاع، بسبب قلق داخلي مُزعج أحيانًا، وربّما عن سوء نيّة في أحيان أخرى؟!.
على مُستوى التهديدات الأمنيّة الداخليّة، ينقسم التخوّف إلى قسمين، الأوّل مُرتبط بما يُسمّى "خلايا نائمة" تنتظر الفرصة لضرب الإستقرار، والثاني مُرتبط بأحقاد سياسيّة وحزبيّة ومذهبيّة يُمكن أن تنفجر عند أصغر خلاف. بالنسبة إلى الخشية من الأعمال الإرهابيّة، فإنّ مسألة "الخلايا النائمة" التي عاد الحديث عنها إلى الواجهة بعد جريمة كفتون، ليست بجديدة، وهي موضع مُراقبة ومُتابعة دائمة من قبل الأجهزة الأمنيّة الرسميّة المُختلفة، ولوّ أنّ الفترة الأخيرة شهدت تراخيًا ظاهريًا بسبب المشاكل المُتوالية التي تعرّض لها لبنان، والتي إستدعت توجيه القوى الأمنيّة لمُعالجة الإحتجاجات الشعبيّة وإرتدادات إنفجار مرفأ بيروت، إلخ. لكن وعلى الرغم ممّا يتردّد عن نشاط مستجدّ لبعض أجهزة الإستخبارات الخارجيّة، وعن طلب مُتزايد على الأسلحة الفرديّة، وعن تحرّكات أمنيّة مَشبوهة هنا أو هناك، إنّ الوضع الأمني مَمسُوك بالإجمال بوجه "الخلايا الإرهابيّة"، وبالتالي لا مخاطر كُبرى في هذا المجال، لكن طبعًا لا يُمكن ضبط الساحة بشكل كامل، ما يعني أنّ إحتمال حُصول إعتداءات محدودة في الشكل والمضمون، يُمكن أن يحصل في أيّ وقت.
أمّا بالنسبة إلى الخشية من الفتنة الداخليّة التي عاد الحديث عنها بعد أحداث خلدة الأخيرة، فهي أخطر من تهديد "الخلايا الإرهابيّة النائمة"، لأنّ نسبة الإحتقان السياسي والحزبي، وكذلك الطائفي والمذهبي، بلغت مُستويات مرتفعة جدًا. لكنّ غياب توازن القوى العسكري ميدانيًا، يحول دون تحوّل الإحتكاكات الأمنيّة المُتفرّقة إلى حرب أهليّة دامية–لا سمح الله. كما أنّ الجيش اللبناني وباقي القوى الأمنيّة الرسميّة يُولون هذا الموضوع أهميّة كُبرى، وهم لن يسمحوا بأنّ يجرّ بعض المُتعصّبين وبعض المُغرّر بهم، الداخل اللبناني إلى صراعات فتنويّة كبرى. لكنّ المُشكلة القائمة تتمثّل في غياب الحلّ الجذري المَطلوب للسلاح المُتفلّت–كما طالب البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي في عظته الأخيرة، حيث أنّ هذا السلاح المُنتشر في أيدي العديد من الأفرقاء، بحجّة أنّه من غير المنطقي تطبيق القانون على فئة دون سواها، هو الذي يبقي الخشية حاضرة من تكرار مُواجهات خطيرة على غرار تلك التي حصلت في خلدة، على سبيل المثال لا الحصر.
بالإنتقال إلى التهديدات الأمنيّة الخارجيّة، فهي تنقسم بدورها إلى قسمين، الأوّل مُرتبط بطبيعة مهمّات القوات الدَوليّة في الجنوب، والثاني مُرتبط بقواعد اللعبة القائمة بين إسرائيل و"حزب الله". بالنسبة إلى طبيعة عمل قوّات "اليونيفيل"، صحيح أنّ مشروع القرار الفرنسي الذي أقره مجلس الأمن، إمتصّ الضُغوط الأميركيّة التي كانت قائمة، وأدخل تعديلات شكليّة لا تُقدّم ولا تؤخّر في طبيعة وُجود القوّات الدوليّة في الجنوب وفي مهمّاتها(1)، لكنّ الأصحّ أنّ هذا القرار تضمّن بعض العبارات الطنّانة التي تحمل أكثر من معنى، والتي يُمكن أن تتسبّب بمشاكل في المُستقبل. وفي هذا السياق، إنّ عبارة "تسهيل الوُصول الفوري الكامل لقوات اليونيفيل إلى الأراضي الخاضعة لسُلطتها"، قد تُفجّر إشكالات عند تنفيذها على أرض الواقع، باعتبار أنّ أيّ تحرّك في السابق للقوّات الدوليّة داخل أماكن لا يرغب "حزب الله" بدُخولها إليه، كان يُواجه بتحريك إعتراضات شعبيّة، ما يعني أنّ أيّ تطبيق أكثر حزمًا لأعمال المُراقبة والدهم من قبل قوّات "اليونيفيل"، سيؤدّي في المُستقبل إلى إرتفاع عدد الإحتكاكات بين "الأهالي" و"القوات الدَوليّة" بشكل دوري ومثير للقلق. والخشية أكبر في حال عمدت القوّات الدَوليّة إلى إستخدام طائرات مُسيّرة لمراقبة الحُدود ومناطق أخرى، أو في حال داهمت مناطق يُشتبه بوُجود أنفاق أو مخابئ عسكريّة فيها. وبالتالي، الأمور مَنوطة بمدى سعي قوّات "اليونيفيل" لتطبيق قرار "تحسين فعاليّتها" من جهة، وبمدى سماح "حزب الله" بذلك من جهة أخرى، في الوقت الذي تقف فيه هذه القوّات عاجزة وفي موقع المُتفرّج، أمام الخروقات والإعتداءات الإسرائيليّة المُتكرّرة على لبنان.
من جهة ثانية، وفي ما خصّ قواعد اللعبة القائمة في الجنوب، فإنّها نجحت في إبقاء حال الإستقرار–ولوّ الهشّ، وذلك منذ العام 2006 حتى اليوم. والخروقات التي حصلت بقيت تحت سقف المُناوشات والعمليّات الأمنيّة المَحدودة. لكنّ ما حصل خلال الأسابيع القليلة الماضية رفع منسوب التوتّر أكثر من السابق، والقلق الإسرائيلي تُرجم في الأيّام الماضية إعتداء إسرائيليًا مُنتصف ليل 25–26 آب، إستهدف بصواريخ من الطوّافات(2)، مراكز تابعة لجمعية "اخضر بلاد حُدود" البيئيّة–كما أكّد بيان لقيادة الجيش اللبناني، علمًا أنّ إسرائيل تتهم "حزب الله" بإستخدام مراكز هذه الجمعيّة التي تصفها بالوهميّة، لمراقبة تحرّكات الجيش الإسرائيلي عن قرب. ويأتي هذا العدوان الجديد في الوقت الذي كان "حزب الله" يتوعّد بالإنتقام من سُقوط مقاتل له في سوريا أخيرًا. وبالتالي، إنّ الساحة الجنوبيّة مَفتوحة على أيّ تطوّرات عسكريّة مفاجئة، بسبب إرتفاع منسوب الإحتقان المُتبادل، ولو أنّ أحدًا لا يسعى إلى الدُخول في مُواجهة عسكريّة واسعة.
في الخُلاصة، لا مخاطر أمنيّة كبرى–إن داخليّة أو خارجيّة، تُهدّد لبنان في المدى المَنظور، لكنّ واقع الإستقرار الهشّ هو المُسيطر في المرحلة الحاليّة، وهذه الحال مُرشّحة لأن تبقى قائمة في المُستقبل لأكثر من سبب وسبب، ومعها سيبقى اللبنانيّون يعيشون حال القلق والتوتّر الدائم، وكأنّ ما يعانون منه من مشاكل إقتصاديّة وماليّة ومعيشيّة وحياتيّة، لا تكفي، خاصة بعد كارثة مرفأ بيروت التي أدخلت اليأس إلى النفوس وقتلت الأمل بالمُستقبل.
1- منها مثلاً خفض سقف عديد القوّات الدولية من 15 إلى 13 ألف فرد، علمًا أنّ كل عديد العاملين لصالح الأمم المتحدة في الجنوب حاليًا، لا يتجاوز 10,500 فرد من عسكريّين ومدنيّين.
2- إستهدفت إسرائيل خراج بلدة راميا بثلاثة صواريخ، وخراج بلدة عيتا الشعب بثمانية صواريخ، إضافة إلى صاروخين أطلقا من داخل موقع "تل الراهب" على خراج البلدة نفسها. كما قصفت بالمدفعيّة خراج بلدات ميس الجبل وحولا ومارون الراس وعيترون.