القارئ المدقق لمراحل مختلفة من تاريخنا يلاحظ أن هذه الأمة قد ابتُليت وعبر مراحل مختلفة من تاريخها "بزعماء" يسيرون وراء أوهام رغباتهم مصدّقين أنها ستنقلب إلى حقائق بمجرد محاولة تصويرهم لها كحقائق. ففي العصر الحديث، ومنذ مراسلات حسين مكماهون وانعقاد مؤتمر الصلح في باريس وكتابة لورانس لنص الاتفاقات بين حسين والمندوب البريطاني في فلسطين 1921-1924، والعرب يتفاجؤون بتفسير خصومهم لهذه الاتفاقات بشكل يعني الاحتلال بدلاً من الاستقلال، فيما يعلن هؤلاء "الزعماء" الذين ابتلي بهم العرب أنهم لم يكونوا يقصدون التخلّي عن الحقوق أو عن الأرض ولكنهم وثقوا بنوايا أعدائهم واعتبروا أن تنازلهم عن حقوقهم سيدفع العدوّ لتقدير ذلك لهم وإجزال عطاءاته لهم؛ فقد قال شريف مكة حسين أكثر من مرة في أواخر أيامه: "لم يكن قصدي أبداً أن أوقع على حق اليهود في فلسطين وليس هذا ما فهمته وما اتفقنا عليه في لندن أو في باريس" أو مع المندوب البريطاني في فلسطين "كلايتون". وفي مرحلة أخرى أقرب إلى الذاكرة الحديثة ظنّ السادات – صادقاً أو واهماً – أنه سوف يعيد حقوق العرب بما فيها الجولان وحاول إقناع الرئيس حافظ الأسد بدعم زيارته إلى القدس لأنه كما قال كان متأكداً من أنها سوف "تحقق للعرب جميعاً ما لم يتمكنوا من تحقيقه خلال كل الحروب التي خاضوها". ومن خلال الانسياق وراء هذه الأوهام يقدّمون تنازلات قبل أن يحصلوا على أي شيء مؤكد وموثق مما يطمحون للحصول عليه من أجل قضايا أمتهم ومصير شعوبهم. فقد قال الرئيس جيمي كارتر أنه كان يستقبل مناحيم بيغن في كامب ديفد وحين يخبره بيغن بطلباته يقول له كارتر: " هذا مستحيل ولا أستطيع أن أطرحه على السادات " ثمّ يفاجأ كارتر في اليوم التالي بأن السادات قد وافق على كلّ طلبات بيغن. وبعدها طبّل العدو وعرفات لاتفاق أوسلو الغامض وأعلنوا الدولة الفلسطينية على الأرض المحتلة التي يتم اغتصابها من العدو دون حول ولا قوة للترويج لوهم السلام من قبل سلطات "الدولة" المحرومة من كلّ مصادر القوة. واليوم نشهد أمام أعيننا الاتفاق التطبيعي بين الإمارات العربية المتحدة والكيان الغاصب، نشاهد بعض الإماراتيين يظهرون على الشاشات الإسرائيلية فرحين باستسلامهم، بينما لا يخفي الإسرائيليون دهشتهم لهذا الانهيار القيمي والأخلاقي والوجودي أمامهم، وبينما يُدفع بأطفال الإمارات لأن يلبسوا قمصاناً تحمل العلم الإسرائيلي تأتي التصريحات من تل أبيب أن إسرائيل لن تبيع الإمارات برغي واحد من طائرات إف 16 . وبينما تحاول الإمارات تسويق هذا التنازل الهائل دون أي ثمن تناله بأنه لقاء إيقاف صفقة الضم الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ينبري رئيس وزراء الكيان ومسؤولون آخرون ليقولوا إن خطة الضم تسير كما هو مخطط لها وأنه تمّ تأجيل مرحلة منها لاعتبارات لا علاقة لها بالاتفاق الإسرائيلي-الإماراتي. وفي وقت سابق من هذا الشهر اتهم عضو الكنيست الإسرائيلي قطر على "السكاي نيوز" بانتهاج أسلوب الخداع بالتصريح بعلاقاتها مع إسرائيل التي امتدت على مدار عقود، وأوضح أفيدار أن " لقطر علاقات مع إسرائيل من قبل العام 1995 " ، لافتاً إلى أنه يذكر أنه في شباط 2009 احتضنت قطر مؤتمر قمة غزة مشيراً إلى أن الدوحة كذبت خلاله على الدول قائلة إنها أقفلت مكتب العلاقات التجارية الإسرائيلي، " لكنني كنت هناك، طلبوا مني أن أصمت وألا أغادر البيت أيام القمة فقط وأن تبقى السفارة مغلقة" وأضاف: " هذا هو أسلوب قطر، أسلوب الخداع والكذب". والسؤال هو: هل قصد هؤلاء الحكام خداع أعدائهم أم خداع شعوبهم أم أنهم يسيرون وراء أوهامهم في خديعة لأنفسهم؟ مستهينين بقدرات الآخرين وذكائهم وبحكم التاريخ الذي لن يرحم أحداً بعد انكشاف الحقائق وخاصة أن أعداءهم لا يتوانون لحظة عن كشف زيف ما يدّعون حتى وهُم في غمرة نشوتهم بانتصاراتهم الوهمية؛ فالأعداء يرون غباء هؤلاء الحكام ويفرضون عليهم شروط الاستسلام.
في مواجهة هذا التاريخ الطويل من التردّي والنفاق والسير وراء الأوهام ومنح الثقة للخصوم والأعداء بدلاً من الإخوة والأشقاء والانبهار بالذي يستعمر ويدمّر وينتهك الحرمات والانقياد وراء ادعاءاته وأكاذيبه لا يبقى للأمة ومستقبل أجيالها إلا من يمثل ضميرها فعلاً بعيداً عن الحكام والمصالح والأكاذيب والادعاءات، ولا شك أن المثقفين الحقيقيين هم الذين مثلوا ضمير الأمة عبر كل المرتفعات والمنحدرات. وما نكوص هذه الأمة اليوم إلا نتيجة اضمحلال الوضع الثقافي في العالم العربي والذي أنهكته ثقافة "البترودولار" منذ انفجار الثروة النفطية وتنصيب المال بدلاً من القيم الأخلاقية والمواقف المبدئية سيداً على الثقافة. ولهذا مخطئ من يقول: "إن خروج دول النفط من حلبة التمثيل العربي ستكون نقمة على الأمة"، بل على العكس قد تكون نعمة لها وقد نتمكن بهمة المثقفين المنتمين الصادقين من إعادة الإعتبار للانتماء والقيم المعرفية والأخلاقية التي كانت سائدة قبل انفجار الثروة النفطية في الخليج، وهنا أوجّه التحية لمثقفي وكتاب المغرب العربي الذين طلبوا من مجلس أمناء جائزة "بوكر" للرواية التي كانت تدعمها الإمارات أن يستقيلوا، وأن يبحثوا عن ممولين مستقلين لا يؤمنون بالتطبيع. وأهيب بأصحاب الأموال والقدرات بدعم الحركة والمواقف الثقافية العربية في المغرب والمشرق العربيين، بعيداً عن تمويل النفط وبعيداً جداً عن أموال المهزومين المستسلمين، وأؤكد أن القول الفصل في النهاية ليس للحكام وإنما للشعوب المقاومة وللثقافة والفكر والرأي وأن كل اتفاقات الاستسلام التي يروّج لها بكلمة "التطبيع" لن تساوي الحبر الذي كُتبت به إذا كانت ردة الفعل الحقيقية مزيداً من الانتماء لثقافة المقاومة ومزيداً من التسّمك بالأرض والحقوق والكرامة ومزيداً من التنسيق والتعاون بين التيارات العربية الأصيلة المؤمنة بأنّ العروبة هي الخلاص حتى في الدول المستسلمة؛ فأصحاب الضمائر الحرة موجودون ومنتشرون في كل بلدان الضاد مهما حاولت الولايات المتحدة والكيان أن يراكموا أرقام دول الاستسلام والخنوع فهم لا يملكون أرواح وضمائر الأحرار في كلّ هذه البلدان، والذين إذا ما قرروا وتآلفوا واتفقوا وعقدوا العزم سيسخرون من اتفاقات الاستسلام الغبية التي لم توهم سوى الموقعين عليها ولم تخدع إلا الراغبين بالانسياق وراء الوهم والخديعة والغافلين عن الواقع الحقيقي الصلب. ولذلك وبدلاً من التخوّف من اتفاقات الاستسلام قد تكون هي الشرارة التي تعيد للعرب انبعاث التيار القوميّ العروبي في كلّ الأقطار العربية دون استثناء بما فيها الدول المطبّعة والمراهنة على عزيمة وصلابة المنتمين والمؤمنين بأصالتهم وحضارتهم ولغتهم وكرامتهم، ولا شك أبداً أن الانتصار هو دائماً حليف المؤمنين بحقوقهم والمثابرين على الدفاع عنها حتى إنجازها. ولا يقل قائل أبداً ما علاقة الثقافة باتفاقات التطبيع لأنّ هدف التطبيع الأول والأخير هو التطبيع التربوي والثقافي وإذا ما أصرّت التيارات الثقافية أن تبقي التربية والثقافة في الصفّ المقاوم، فلن يتمكن المطبّعون على ضفتي التطبيع من جني ثمار جهودهم وستنتصر إرادة المقاومين والمؤمنين في النهاية.