تمَّ ترتيب الزيارتين الفرنسية والأميركية لبيروت وكأنهما زيارة واحدة. فلا مجال لتحليل: هل نجحت مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون أو فشلت، إلّا بعد انتهاء زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر. وفي النهاية، الفرنسيون يلعبون دور الوسيط بين واشنطن وطهران، لكنهم يعرفون: القرار ليس عندهم!
في تقدير بعض المتابعين، نجحت طهران في تسجيل انتصار سياسي مُهمّ في لبنان، من خلال «استيعابها» للمبادرة الفرنسية. ففي الشكل على الأقل، الفرنسيون فكّوا الحصار عن «حزب الله» في لبنان. وأساساً، الأوروبيون يسيرون في الحصار الأميركي من باب «التضامن»، وأحياناً تحت الضغط.
قبل يومين، عبَّرت باريس رسمياً عن دعمها لوجود «الحزب» في الحكومة والمجلس النيابي، وقالت: إنه مكوِّن سياسي يمتلك الحقّ في أن يكون في السلطة كسواه من الأحزاب. وهذا الموقف لا يتناقض فقط مع الموقف الأميركي، بل أيضاً مع المناخ الأوروبي الذي ازداد تشدداً ضد «الحزب»، وطبعاً مع الموقف السعودي.
لقد حاول الفرنسيون استثمار الصدمة التي أحدثتها كارثة المرفأ، في لحظة انشغال الأميركيين بانتخاباتهم، ورموا بمبادرتهم على الطاولة.
في التفكير الفرنسي، «حزب الله» يسيطر على القرار، واقعياً وإلى أجل غير مسمّى. فإذا أنجزنا تسوية تمنحه جزءاً من النفوذ، من داخل المؤسسات، وبطريقة نظامية، فذلك سيكون لمصلحة البلد والفئات الأخرى التي لا تمتلك أيّ سبيل لمواجهة نفوذ «الحزب».
ووفق هذا التفكير، سيندفع «حزب الله» إلى مزيد من الانخراط في الحالة اللبنانية، وستحدّ إيران من تورُّطها. ولذلك، إنّ أي تسوية، ولو راعت حضور «الحزب» في السلطة، ستكون أفضل من «الستاتيكو» القائم.
ويضع الفرنسيون في حسبانهم أنّ «حجم» الشيعة عموماً، و»حزب الله» خصوصاً، سيكون وازناً في «العقد السياسي الجديد» الذي طرحه ماكرون. وهم يعتقدون أن لا مبرّر لاعتراض الفئات اللبنانية الأخرى لأنّ «الحزب» داخل الدولة سيتخلّى عن سلاحه ويعتمد آليات العمل المؤسساتي. وفي المقابل، ستتم تلبية كثير من الطروحات التي تطمئن هذه الفئات.
وفي العمق، يوحي الفرنسيون بأنهم يريدون حلحلة المشكلات اللبنانية «على الطريقة اللبنانية»، أي «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم». وهذا الأمر يريح إيران جداً لأنه يمنحها الفرصة للاستفادة من الوقت في لبنان على مدى الأشهر الأربعة المتبقية من هذا العام، أي إلى أن تتضِح الصورة في البيت الأبيض.
وثمة مَن يقول إنّ إيران لا يمكن أن تُسلِّم بتراجع نفوذ «حزب الله» في لبنان إلّا عندما يصبح مكرَّساً في الدستور والمؤسسات، وعندما يدخل بكل قوته إلى الدولة. وفي رأي المتابعين أنّ «حزب الله»، في هذه الحالة، يسلِّم سلاحه بنفسه لنفسه، لأنه يصبح هو الدولة عملياً.
إذاً، ثمة مَن يتوقع أن تكون حكومة أديب بالنسبة إلى «حزب الله» شبيهة بحكومة دياب. فكلتاهما وُجِدتا لـ»تقطيع الوقت». واستطراداً، يمكن أن تنتهي الثانية كما انتهت الأولى. كيف؟
إذا كان مصطفى أديب قد جاء ضمن تدبير فرنسي، فبرنامج حكومته يفترض أن يكون خريطة الطريق التي أرسلتها باريس إلى المسؤولين اللبنانيين الأسبوع الفائت.
لكنّ العارفين يُبدون شكوكاً جدّية في هذا المجال، لأنّ قوى السلطة التي تمادت في الاستفادة من مغانم الفساد ورفضت دعوات الإصلاح الفرنسية قبل «سيدر» وبعده، واستهلكت حكومة دياب في المناورات، لم تُظهر أنها أوقفت نهج المخادعة.
ولذلك، سيتم تركيب الحكومة العتيدة على طريقة تركيب حكومة دياب. ومجدداً، سيكون هناك وزراء - وكلاء لقوى السلطة، لا أكثر. وهؤلاء سيصطدمون مجدداً بالشقّ المالي - الاقتصادي - الإداري.
الورقة الفرنسية تطالب باستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وإقرار «الكابيتال كونترول»، وبإجراء تدقيق جنائي في مصرف لبنان بإشراف المصرف المركزي ووزارة المال الفرنسيين، وبمعالجة أبواب الهدر والفساد خصوصاً في مجال الكهرباء والطاقة. فهل قرَّرت الطبقة السياسية أن «تنتحر» بالإصلاح وافتضاح موبقاتها على مدى سنوات؟
وفي الجانب القضائي، هناك نموذج فاقع: هل ستنكشف خفايا زلزال المرفأ أم ستتمّ «اللفلفة»، فتتراجع المسؤوليات نزولاً، لترسو مثلاً على بضعة عَمّالٍ قاموا بـ«تلحيم» باب العنبر 12 «بغير دراية» مثلاً؟
المتابعون يقولون: الأرجح أنّ الفرنسيين يعرفون أن لا فرصة للإصلاح الحقيقي، وأنّ الطاقم السياسي سيجد الوسائل ليدافع عن نفسه ويستمر. ولذلك، يريدون إمرار مبادرتهم بالحدّ الأدنى من كل شيء، وخصوصاً الإصلاح و»النأي بالنفس». المهمّ أن تنجح المبادرة ويحافظوا على وضعيتهم المميزة تاريخياً في لبنان.
ولكن، هل هكذا ينظر الأميركيون إلى الصورة؟
أولى المؤشرات إلى الموقف الأميركي ربما تكون في الموقف السعودي الرافض «التطبيع» الذي يعمل له الفرنسيون. وأمّا واشنطن فتبدو مهتمة بالبرنامج لا بالأشخاص. وعلى هذا الأساس أعطت الفرصة لحكومة دياب.
البرنامج المطلوب من الحكومة أميركياً ليست فيه التباسات، وهي تختصر بالإصلاحات بمعناها السياسي في الدرجة الأولى، أي قدرة الحكومة على تحرير قرارها من سيطرة إيران وتأثيراتها على الخيارات الاستراتيجية للدولة اللبنانية، في مرحلة يتم فيها رسم مستقبل الشرق الأوسط.
هل يمكن أن تكون حكومة أديب هي الحكومة - المعجزة التي ترضي الأميركيين والعرب والفرنسيين والإيرانيين في آن معاً؟
لقد سبق لحكومة دياب أن حاولت توزيع أرجُلِها في كل اتجاه، لعلها ترسو في مكان مريح… لكنها انفسخت!