منذ شهر أيلول من العام 2019، بدأت الليرة اللبنانية تتعرّض لضغوط جمّة في السوق الموازية حتى لامس سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي عتبة الـ10,000 ليرة في شهر حزيران المنصرم. في الواقع، إنّ الأسباب التقنية المتعارف عليها لتدهور قيمة العملة المحلية مقابل الدولار الأميركي متعدّدة. وهي تتمحور حول المناخ السياسي المتلبّد الذي أدّى إلى فقدان الثقة تدريجياً، كما وحول ارتفاع حجم خلق النقد بالليرة اللبنانية مع تضاعف حجم قيمة النقد قيد التداول منذ بداية العام وسط عجز مالي عام كبير مع عملية تنقيد مباشر من قبل المصرف المركزي. أضف إلى ذلك، الشحّ في الدولار الأميركي في السوق المحلية وسط تراجع قيمة التدفقات المالية والعجوزات المتراكمة في ميزان المدفوعات، ناهيك عن عمليات التهريب عبر المعابر الحدودية غير الشرعية التي ترخي بثقلها أيضاً على سوق القطع.
غير أنّ الانفجار الكارثي في الرابع من آب والذي هو بدون شكّ الأكبر بتداعياته منذ الحرب الأهلية على صعيد الخسائر البشرية والمادية والتداعيات المباشرة وغير المباشرة، جاء ليزيد الضغوط الاقتصادية والنقدية والمالية على اللبنانيين، علماً أنّ لبنان كان يشهد أصلاً قبيل الانفجار أزمة اقتصادية غير مسبوقة دفعته باتجاه ركود حادّ في قطاعه الحقيقي وتدهور نقدي ملحوظ وضغوط اجتماعية هائلة. إلا أنه وبعيْد هذا الانفجار، بدأ مسار تذبذب سعر صرف الدولار بين التراجع والاستقرار ضمن هامش 6,800 و7,800 ليرة مقابل الدولار، وذلك رُغم وجود تحديات سياسية وأمنية ونقدية من شأنها أن تؤدّي بسعر الصرف إلى التحليق عالياً. في الواقع، هناك عدد من العوامل الظرفيّة والمؤقتة التي كانت وراء هذا الهدوء التنازلي في سعر صرف الدولار في السوق السوداء خلال الشهرين المنصرمين.
أولاً، إعادة فتح مطار بيروت في شهر تموز الماضي وتوافُد عدد من اللبنانيين المغتربين إلى بلدهم الأمّ لقضاء فرصة فصل الصيف وسط أهلهم، ما سمح بدخول الدولار «الطازج» إلى البلاد وعزّز كتلة الدولارات المتداولة من جهة، ودفع بالصرافين من جهة أخرى إلى تخفيض سعر الصرف في السوق السوداء من حوالي 10,000 ليرة للدولار في شهر حزيران إلى حدود الـ7,000 ليرة للدولار في المتوسّط بين شهري تمّوز وآب، وذلك في محاولة منهم لجمع العملة الخضراء في سعي متواصل إلى تحقيق ربح عبر رفع سعر الصرف مجدّداً في مراحل لاحقة.
ثانياً، إعادة مصرف لبنان السماح للمؤسسات غير المصرفية مثل OMT وويسترن يونيون وغيرها، التي تقوم بعمليات التحاويل النقدية بالوسائل الإلكترونية، بأن تسدّد قيمة أي تحويل نقدي إلكتروني بالعملات الأجنبية وارد إليها من الخارج بالدولار الأميركي، بعد أن كانت تسدّده بالليرة اللبنانية وفق سعر صرف يقارب 3,850 ليرة فقط، وهو ما يعزّز من كتلة الدولارات المتداولة في السوق.
ثالثاً، في أعقاب الإنفجار الكبير الذي وقع في الرابع من آب، تعطّل عمل مرفأ بيروت نتيجة الأضرار المادية الكبيرة التي حلّت به وهي انطوت على تدمير شبه كامل للمرفأ بصوامعه وحاوياته ومبانيه، وبالتالي تراجَع حجم الاستيراد عبر المرفأ وانخفض معه الطلب على الدولار بشكل كبير من قبل المستوردين الذين كانوا يلجأون إلى السوق السوداء لتأمين الدولار في عمليات الاستيراد.
رابعاً، وصول المساعدات الدولية الإنسانية من مواد غذائية وطبّية إلى لبنان في أعقاب الانفجار والتي عكست تراجعاً نسبياً في الطلب على استيراد هذه المواد لا سيّما الطبيّة التي أمّنت بعض حاجات المستشفيات والمستوصفات والصليب الأحمر من مستلزمات طبيّة، فتراجعت الحاجة لشراء هذه المستلزمات على الأقلّ في المدى القصير وساهمت بالتالي في تراجع نسبي وإنْمحدود في طلب العملة الخضراء من السوق السوداء.
خامساً، قام مصرف لبنان بتوسيع هامش تدخّله في ضخّ الدولارات في سوق القطع دون إبطاء لمنع انهيار سعر صرف الليرة في السوق السوداء بعد حجم صدمة الانفجار، وهو ما تجلّى بشكل واضح في تراجع الموجودات الخارجية لدى المصرف المركزي بحوالي 700 مليون دولار في النصف الأول من شهر آب، ناهيك عن تأثير السلّة الغذائية المدعومة من قبل المصرف المركزي في كبح نسبي للطلب على الدولار من قبل بعض تجّار السلع الغذائية.
سادساً، ومنذ أن استجدّت أزمة المصارف وما رافقها من فقدان للثقة في أعقاب 17 تشرين الأول، قُدّرت قيمة السحوبات بالعملات الأجنبية من المصارف والمخزّنة في المنازل بين 8 و9 مليار دولار، غير أنه وبنتيجة الأضرار التي ألحقها الانفجار بما يقارب من 80,000 وحدة سكنية من ضمنها أضرار لا يُحتمل تأجيل إصلاحها، لجأ المتضرّرون الى دولاراتهم المخزّنة في المنازل لدفع ثمن الخشب والألمنيوم والزجاج والأدوات الصحية وخلافه، في حين لجأت فئة أخرى من اللبنانيين الذين تضرّرت منازلهم إلى الدولارات المخزّنة لدفع تكاليف إقامتهم المؤقتة في فنادق أو في شقق مفروشة أو حتى لشراء الملابس وغيرها من الحاجات الضرورية الأخرى، مما حفّز عجلة عرض الدولار الأميركي، ناهيك عن التحويلات المالية التي قام بها ذوي الأسر المتضرّرة المغتربين لدعم أهلهم ومساعدتهم على إصلاح ما تضرّر من أملاكهم عقب الإنفجار.
سابعاً، لا شكّ في أنّ الالتفاف الدولي حول لبنان وما رافقه من زيارة عاجلة للرئيس الفرنسي ماكرون إلى لبنان في أعقاب الانفجار، حاملاً في جعبته خارطة طريق سياسية واقتصادية لإنقاذ لبنان من أزمته المُستعصية، قد عزّز الآمال بانفراج محتمل، مما خلق حالة من الترقّب الحذِر الذي كبَح الضغوط نسبياً في سوق القطع ودفع بالبعض إلى تصريف دولاراتهم خشية من خسارة قد تنجم عن تحسّن محتمل في سعر الصرف.
عليه، وفي ظلّ هذه المقاربة التقنية لأسباب الهدوء الظرفي في سوق القطع خلال الشهرين المنصرمين، يتبادر اليوم إلى أذهان اللبنانيين سؤال بديهي حول ما إذا كان سعر الصرف سيحافظ على هدوئه النسبي أم سيُعاود الارتفاع مجدّداً في المدى المنظور.
في الواقع، إنّ الإجابة على هذا السؤال تضعنا أمام سيناريوين لا ثالث لهما، خاصةً في أعقاب الزيارة الثانية للرئيس الفرنسي ماكرون إلى لبنان منذ مساء البارحة والتي تُشكّل بأبعادها زيارة مفصلية من شأنها أن ترسم معالم مستقبل البلاد السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي في المدى المتوسط. بمعنى أدقّ، هل نحن أمام تسوية سياسية جدّية تضعنا أمام استقرار سياسي وأمني يؤسّس لتشكيل حكومة جديدة تُحاكي وجع الناس ومتطلّباتهم، وتكون قادرة على مواكبة التحديات الجمّة وعلى إطلاق عجلة الاصلاحات الهيكلية المنشودة ضمن برنامج ينخرط فيه صندوق النقد الدولي لتحرير المساعدات المالية؟ أم نحن أمام تضييع فرصة ذهبية وأخيرة من الاهتمام الدولي تجاه لبنان وبالتالي الغرق في وحول النكايات السياسية حول حقيبة وزارية مخملية من هنا أو موقع إداري في دولة مشلولة من هناك، للانقضاض على ما تبقّى من أشلاء وطن أنهكته النزاعات الطائفية والمذهبية التي لم تقدّم له سوى أطباق من الفساد والمحاصصة والتجويع والإذلال والحروب والويلات والتي تؤسّس لفوضى خلاقة مدمّرة؟
في التفاصيل، إنّ السيناريو الأول أيّ التفاؤلي، هو رهن تسوية سياسية تعبّد الطريق أمام الاستقرار السياسي والأمني في لبنان، مع ضرورة تشكيل حكومة فاعلة ومنتجة تواكب عملية إطلاق برنامج إنقاذ شامل بالتعاون مع صندوق النقد الدولي من أجل إعطاء مصداقية للمساعي الإصلاحية المطروحة وتعزيز القدرة على استقطاب المساعدات المرجوّة من الخارج، في محاولة من الدولة اللبنانية للحصول على عشرة أضعاف حصة لبنان في صندوق النقد الدولي والمقدّرة بحوالي 880 مليون دولار، وهو ما يُعوَّل عليه أيضاً لتحرير جزء من مساعدات مؤتمر «سيدر» والتي تصل في الإجمال إلى حوالي 11 مليار دولار، ناهيك عن المساعدات من قبل الدول المانحة الأخرى. وبالتالي فإنّ ضخّ ما يوازي 20 إلى 25 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة كفيل بإحداث صدمة إيجابية تُعيد ضخّ الدمّ من جديد في شرايين الاقتصاد الوطني، ما من شأن ذلك أن يُؤمّن الاستقرار الاقتصادي المنشود والقادر على إخراج لبنان من فخّ الركود التضخمي في فترة لا تتجاوز العامان، وذلك بالتوازي مع استقرار مالي ونقدي من شأنه أن يوحّد أسعار الصرف عند مستويات تعكس القيمة الحقيقية لليرة اللبنانية مقابل الدولار والتي لا تتجاوز عتبة الـ5,000 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد كحدّ أقصى.
أما السيناريو الثاني أيّ التشاؤمي، والذي ينطوي على فشل التسوية السياسية التي يحملها الرئيس ماكرون في جعبته وبالتالي الدخول في فراغ حكومي أقلّه إلى ما بعد الانتخابات الأميركية في شهر تشرين الثاني المقبل، فهو بمثابة انتحار جماعي لا سيّما في ظلّ ما طُرح مؤخراً عن إمكانية رفع الدعم عن المواد الأساسية (المحروقات والأدوية والقمح) من قبل مصرف لبنان بعد ثلاثة أشهر كحدّ أقصى، نظراً للاستنزاف التدريجي والمتواصل منذ عام في الاحتياطيات السائلة من النقد الأجنبي لدى المصرف المركزي والتي تقدّر بحوالي 19.5 مليار دولار من ضمنها الاحتياطي الإلزامي المقدّر بحوالي 17.5 مليار دولار (أيّ ما تبقّى من ودائع للزبائن لدى المصرف المركزي)، وهو غير قابل للاستخدام على الإطلاق من أجل تمويل التجارة وفق آخر تصريح صادر عن حاكم مصرف لبنان. وعليه، فإنّ ما تبقّى من قدرة على المناورة وعلى تمويل احتياجات لبنان (المقدّرة بحوالي 700 مليون دولار شهرياً) لا يتجاوز الملياري دولار، ما يعني بأننا قد نصل إلى عتبة الاحتياطي الإلزامي قبل نهاية شهر تشرين الثاني المقبل وبمجرّد الوصول إلى هذا المستوى من الاحتياطيات السائلة سيتوقف المصرف المركزي عن تقديم التمويل للسلع الأساسية. من هنا، وفي ظلّ هذا السيناريو التشاؤمي، فإنّ الآفاق بما يخصّ سعر الصرف تحديداً تبدو سوداوية جداً، أيّ إقلاع عمودي صاروخي وانفلات جنوني في سعر الصرف في السوق السوداء إلى مستويات غير مسبوقة، لا سيّما بُعيْد توجّه تجّار المشتقات النفطية والأدوية إلى السوق السوداء للحصول على الدولار بعد رفع الدعم، ناهيك عن التداعيات الملحوظة لهذه الخطوة على معدّلات تضخّم الأسعار، خصوصاً أسعار السلع المدعومة والتي قد تشهد تضخماً في أسعارها بنسبة 400% في حال أُلحقت بالسوق السوداء، وبالتالي على القدرة الشرائية والأوضاع المعيشية للأسر. أضف إلى ذلك، قرار مصرف لبنان الأخير الذي ألزم المقترضين من التجّار وأصحاب المؤسسات التجارية والصناعية بسداد قروضهم بعملة القرض، وغالبيتها بالدولار الأميركي، ما من شأن ذلك أن يرخي بتداعياته على طلب العملة الخضراء في السوق السوداء حيث من المتوقع أن تسقط فيها الليرة اللبنانية صريعة بالضربة القاضية على يد الدولار الأميركي في ظلّ ظروف معاكسة كهذه.
في الختام، يُرجى من اللبنانيين الكرام ربط أحزمتهم بإحكام، لأنّ موعد إقلاع طائرة الخطوط الجوية اللبنانية قد يحين دون أيّ إنذار. ولكن هل هو إقلاع باتجاه الاستقرار السياسي والاقتصادي المنشود للخروج من أجواء الأزمات العاتية والعودة إلى ربوع الحياة الكريمة، أم هو إقلاع باتجاه المجهول الذي يلفّه الإفلاس والتجويع للدخول في أتون الصراعات السياسية والاجتماعية؟ من هنا، فإنّ تحديد وجهة رحلة لبنان باتجاه مستقبل واعد ومُشرق يتطلّب منّا اليوم في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان الحديث الوعي الجماعي والمسؤولية المطلقة والحسّ الوطني وعدم ترويج الإشاعات التي تساهم بدون أدنى شكّ في زعزعة كلّ من الاستقرار النقدي وعامل الثقة بشكل عام. والأهمّ من ذلك، على كافّة القوى السياسية والمدنية التغاضي عن المصالح الشخصية والالتفاف ولو لمرّة واحدة حول مصلحة هذا الوطن المذبوح من الوريد إلى الوريد، لأنّ «كلّ أمّة تريد ان تحيا حياة حرّة مستقلّة تبلغ فيها مثلها العليا، يجب أن تكون ذات وحدة روحية متينة».