فجأة ومن دون مُقدّمات، جرى تحديد موعد الإستشارات النيابيّة المُلزمة قانونًا، وغير المُلزمة عمليًا-كما تبيّن، بفعل تحديد إسم رئيس الحكومة المُكلّف بشكل مُسبق، وخارج الإطار الطبيعي المُتمثّل بتصويت الكتل النيابيّة! ونجح الضغط الرئاسي الفرنسي المُباشر، في تأمين نسبة توافق داخليّة مُهمّة لتحرير مسألة التكليف، بحيث صار سفير لبنان في ألمانيا الدُكتور مُصطفى أديب رئيسًا مُكلّفًا للحكومة بتسعين صوتًا، بعد أن أدركت مُختلف القوى الأساسيّة في لبنان، أنّ الإستمرار بالدوران في الحلقة المُفرغة بفعل الخلافات المُتراكمة، سيُؤدّي إلى سُقوط الهيكل على رؤوس الجميع من دون إستثناء. لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه حاليًا، هو: هل ستنسحب سلاسة التكليف على مسألة تشكيل الحُكومة؟ بمعنى آخر، هل يُوجد توافق مُسبق وضُمني على شكل الحكومة الجديدة وعلى مضمونها؟.
لا شكّ أنّ الساعات القليلة المُقبلة، ستحمل مُشاورات مع الكتل النيابيّة، سيُجريها رئيس الحُكومة المُكلّف إستثنائيًا في مقرّ رئاسة مجلس النواب في عين التينة، بسبب تضرّر مجلس النواب بإنفجار المرفأ. وستلي هذه الجولة، إتصالات ولقاءات أخرى مع قوى سياسيّة وحزبيّة مُختلفة، وذلك لتكوين فكرة عن طبيعة الحكومة المطلوبة، وعن رأي القوى السياسيّة بشكلها وبمضمونها. وتُوجد أيضًا لدى الدُكتور دياب نيّة بلقاء مُمثّلين عن المُجتمع المدني- في حال مُوافقتهم على هذا الأمر بطبيعة الحال. لكن وكما أنّ عمليّة التكليف حُسمت خارج إطار الإستشارات المُلزمة، فإنّ عمليّة تشكيل الحُكومة ستُحسم خارج كل هذه الإتصالات الشكليّة الطابع!.
وفي هذا السياق، من المُنتظر أن تتواصل الإتصالات بين القوى التي كانت تقاطعت مصالحها في مرحلة سابقة على ما بات يُعرف بإسم "التحالف الرباعي"، أي ما بين "الثنائي الشيعي" و"التيّار الوطني الحُرّ" و"تيّار المُستقبل"، وذلك لتحديد طبيعة تركيبة الحكومة، بالتنسيق مع قوى خارجيّة دخلت بقُوّة على خطّ الأزمة اللبنانيّة في المرحلة الأخيرة، لا سيّما منها قوى أوروبيّة بقيادة فرنسا، مُستفيدة من ورقة المُساعدات المالية المَوعودة التي تملكها، للضغط على القوى اللبنانيّة المُختلفة. ولا شكّ أنّ تركيبة الحُكومة المُقبلة، ستحدد مهمّتها بشكل واضح، باعتبار أنّ هناك من يتحدّث عن مَهمّة بالغة الأهميّة للحكومة برئاسة الدُكتور مُصطفى دياب، لجهة القيام بالإصلاحات المَطلوبة، ووضع لبنان على سكّة الإنقاذ، والبدء بتلقّي المُساعدات الماليّة الخارجيّة المَوعودة، إلخ. في المُقابل، هناك من يتحدّث عن مَهمّة مُوقّتة للحُكومة المُقبلة، لجهة تقطيع الوقت في إنتظار ما ستؤول إليه نتائج الإنتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، ونتائج المُفاوضات الإقليميّة–الدَوليّة القائمة بشأن أكثر من ملفّ، من سوريا إلى إيران، وما بينهما!.
وفي كلّ الأحوال، الأيّام القليلة المُقبلة ستشهد الإنطلاق الفعلي لمُفاوضات التشكيل، في ظلّ تباين خارجي بشأن الموقف من هذه الحُكومة، حيث تُوجد قوى عدّة، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركيّة، تضغط لأن يكون "حزب الله" خارج التركيبة الحُكوميّة بالكامل، بينما تُوجد قوى أخرى، ومنها فرنسا التي تختصر الموقف الأوروبي، تسعى جاهدة لإعطاء الحُكومة الصبغة الإقتصاديّة الإنقاذيّة، بعيدًا عن متاهات وزواريب السياسة. وليس بسرّ أنّه يُوجد تباين أميركي–فرنسي بشأن الملفّ اللبناني، وبشأن الملفّات الإقليميّة أيضًا، حيث تنطلق واشنطن من إعتبارات تُعطي الأولويّة لمصالح إسرائيل، ولخطط التطبيع مع الدُول العربيّة، وكذلك لخطط تمرير "صفقة القرن"، بالتوازي مع إضعاف النُفوذ الإيراني الإقليمي، بينما تُحاول باريس العودة بقُوّة إلى المنطقة وإيجاد أكثر من موطئ قدم لها، من خلال لعب دور الوسيط بين الغرب وإيران، وعبر التمايز في التعاطي مع مُختلف الملفّات الساخنة الإقليميّة. كما تُوجد قوى ثالثة، ومنها جهات عربيّة وخليجيّة فاعلة، ولها إمتداداتها داخل الساحة اللبنانيّة، تنتظر ما ستؤول إليه إتصالات التأليف، لتبني على الشيء مُقتضاه.
أمّا داخليًا، وفي حين حسمت بعض القوى موقفها من الحُكومة مُسبقًا، على غرار حزب "القوات" مثلاً الذي سيكون سلفًا في صُفوف المُعارضة، فإنّ أغلبيّة القوى لا تزال بموقف المُترقّب لما ستفضي إليه المُشاورات. بمعنى آخر، إذا كان مَحسومًا أنّ القوى السياسيّة لن تتمثّل بشكل مُباشر وواضح، فإنّ مسألة حجم التمثيل غير المُباشر، عبر وزراء إختصاصيّين، لم تُحسم كليًا بعد. كذلك الأمر بالنسبة إلى مسألة إعادة توزيع الحقائب السياديّة، أي الدفاع والداخليّة والخارجيّة والماليّة، والحقائب الأساسية على غرار الطاقة والصحّة وغيرهما. وبالتالي، ليس مُهمّا إذا كانت الحُكومة المُقبلة ستكون مُصغّرة، ومن 14 وزيرًا–كما يتردّد، أم لا، بل المُهمّ مدى تفلّت الحُكومة المُقبلة من نُفوذ القوى السياسيّة، وبالتالي مدى قُدرتها على العمل وعلى الإنتاج بعيدًا عن مُناكفات الداخل، ومدى قُدرتها على كسب ثقة الخارج لتفتح الباب أمام بدء تدفّق المُساعدات والقُروض الماليّة إلى لبنان.
في الخُلاصة، يُمكن القول إنّ لبنان هو حاليًا في عين العاصفة، وملامح الحُكومة المُقبلة ستُحدّد ما إذا كان هناك أيّ أمل بوقف المسار الإنحداري الحالي، وبالتالي بالمُباشرة بالصُعود تدريجًا من مرحلة الإنهيار، أم أنّ الأمر مُجرّد "حقنة تخدير"–إذا جاز التعبير، في إنتظار وُضوح صُورة ما يُحضّر لمنطقة الشرق الأوسط برمّتها!.