خلال زيارتيْن قام بهما في أقلّ من شهرٍ واحدٍ، نجح الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون بفرض "إيقاعه" على الساحة اللبنانيّة، على أكثر من مستوى، بل ذهب إلى حدّ استعادة "أمجاد" الماضي القريب كما البعيد، تزامناً مع الذكرى المئوية الأولى لـ"لبنان الكبير".
فَعَلها الرئيس الفرنسي، فـ "فرض" على المسؤولين اللبنانيين الكثير من الأمور التي كانوا يصنّفونها "محظورات"، من بينها مجرّد "اجتماعهم" في قاعةٍ واحدةٍ، بعدما كان بعضهم "يتباهى" بـ"مقاطعة" مؤتمرات الحوار التي كان الرئيس ميشال عون يدعو إليها.
أكثر من ذلك، "فرض" ماكرون على القيادات اللبنانية "التوافق" على مرشّحٍ لرئاسة الحكومة، بعدما كان البعض يرفض أيّ "تعاونٍ" على هذا المستوى، من باب "الخصومة" مع "العهد" أو غيره، وهو ما قد ينعكس على تأليف الحكومة، التي يتحدّث البعض عن احتمال ولادتها في "فترةٍ قياسيّة".
وإذا كانت كلّ هذه "الإنجازات" تحقّقت تحت "الضغط"، ومن باب "الترهيب" لا "الترغيب"، على طريقة التلويح بعقوباتٍ لن توفّر أحداً، فإنّ ثمّة من يسأل، أبعد من المبادرة الفرنسية ومغازيها ومآلاتها، عن الحال في ما لو قرّر ماكرون "نفض يده" عن لبنان...
مفوّض سامٍ!
كثيرةٌ هي المفارقات التي حملتها زيارة الرئيس الفرنسي إلى لبنان، بنسختها الثانية، خصوصاً لجهة تعاطي المسؤولين اللبنانيّين معها، ولا سيما دعاة "السيادة والاستقلال"، ممّن ذهب بعضهم بعيداً في "رهاناتهم"، لحدّ اعتبار ماكرون "مفوّضاً سامياً" غير مُعلَن على الدولة اللبنانية، بعد مئة عام على إعلان "دولة لبنان الكبير".
وعلى طريقة "ضرب الحبيب زبيب"، كما يقول المثل الشعبيّ الشائع، كان السرور ينتاب المسؤولين اللبنانيّين، وهم يستمعون إلى ماكرون وهو يوجّه لهم الاتهامات، وربما الإهانات، بل يذهب لحدّ منحهم "مهلة" لتحقيق الإصلاحات الموعودة، وإلا سيكون عليهم أن يواجهوا "الويل والثبور وعظائم الأمور"، علماً أنّ التسريبات التي تزامنت مع زيارته عن عقوباتٍ تمّ التلويح بفرضها على بعض المسؤولين، لم يكن لا عفوياً ولا بريئاً.
ولعلّ المفارقات تزداد إثارة للانتباه مع دخول ماكرون على خطّ "تفاصيل التفاصيل" المرتبطة بالشأن اللبنانيّ، وفقاً لما تسرّب مثلاً عن لقائه رؤساء الأحزاب والكتل النيابية في قصر الصنوبر، وتصنيفه "الأولويات" رداً على بعض الطروحات التي قُدّمت إليه، فضلاً عن "الورقة الفرنسية" التي تمّ توزيعها، والتي بدت أشبه بصيغة "بيان وزاري" للحكومة الجديدة، ولو قال الفرنسيّون إنها "خلاصة أفكار" تداولها اللبنانيون أنفسهم.
وأبعد من كلّ هذه المغازي "السياسيّة"، يبقى النشاط "الإنسانيّ والاجتماعيّ" الذي تعمّد الرئيس الفرنسيّ إظهاره خلال زيارته، بدءاً من لقائه "التاريخيّ" مع السيدة فيروز، والذي حرص على الحديث عن "خصوصيّته"، وصولاً إلى زيارته محمية جاج، حيث غرس شجرة أرز، وهو نشاطٌ أراد من خلاله "تكريس" صورةٍ مختلفةٍ تقرّبه أكثر من الشعب، الأمر الذي يعتبره الفرنسيّون أساسياً في دورهم المستجدّ في لبنان.
إنجازاتٌ تُحسَب له!
صحيحٌ أنّ "التحفّظات" على هذا الدور الفرنسي، وإزاء كلّ ما سبق، لا تبدو قليلة أو بسيطة، خصوصاً أنّ "شعرة" تفصل بين الاهتمام بلبنان ومحاولة إنقاذه، والتدخّل الفاقع في شؤونه، وهي "شعرة" قد يرى كثيرون أنّ الرئيس الفرنسيّ قطعها بأشواط، ولكن، رغم ذلك، ثمّة العديد من "الإنجازات" التي يمكن أن تُحسَب له في زيارتيْه إلى لبنان.
من هذه الإنجازات مثلاً، قدرته على "فرض" تسمية رئيس حكومة جديد بالتوافق بين الأفرقاء، بعدما كانت كلّ الأجواء تشير إلى "تعقيداتٍ" إضافية على المشهد، كان يمكن أن تطرأ نتيجة رفض رئيس الحكومة السابق سعد الحريري تسمية أيّ شخصيّة بعد "اعتكافه"، الأمر الذي كاد "يطيّر" الاستشارات النيابية، ويرهنها بـ"مجهول" لا أحد يعرف تداعياته.
لكن، بقدر "أهمية" هذا الإنجاز، توازياً مع "الحوار" الذي نجح أيضاً في فتحه بين الأفرقاء حول العديد من الملفات الخلافية، ومن بينها الانتخابات المبكرة وقانون الانتخاب وغيره، ثمّة من يسأل، ماذا لو نفض الرجل يده من لبنان الآن؟ هل ستتغيّر طريقة تعاطي اللبنانيين مع بعضهم، أم أنّهم سينتظرون "نجدة" جديدة؟
قد يكون إعلان قصر الإليزيه عن زيارة ثالثة "مبرمجة" للرئيس الفرنسي إلى لبنان في شهر كانون الأول المقبل كافياً لإعطاء الإجابة حول ذلك، باعتبار أنّ القاصي والداني يدرك أنّ غياب مثل هذا "الضغط" سيعيد الأمور إلى مربّعها الأول، ولن يتردّد الأفرقاء في العودة إلى تغليب حساباتهم الفئوية الضيّقة على كلّ "إنقاذ" يخشون أن يُحسَب لصالح هذا الطرف أو ذاك.
ولا شكّ أنّ العودة إلى الوراء قليلاً كافيةٌ للدلالة على ذلك، ليس فقط لجهة "مسارعتهم" إلى المشاركة في حوارٍ يرعاه الرئيس الفرنسيّ، تماماً كما لم يتردّدوا سابقاً في تلبية دعوات الخارج إلى اجتماعاتٍ وطنيّة، من الطائف إلى الدوحة وغيرهما، في وقتٍ يتباهون بوضع العصيّ في دواليب أيّ مبادرةٍ حواريّةٍ داخلية، وكأنّه إذعانٌ بأنّ الحلّ لا بدّ أن يأتي من الخارج، وإلا فلا قيمة ولا معنى له.
فرصة وامتحان...
لا يمكن القول إنّ المبادرة الفرنسية على الضفة اللبنانية "بريئة"، ولا شكّ أنّ الرئيس الفرنسي الشاب لا ينطلق فيها من "غيرته" على اللبنانيين، بقدر ما أنّه يبحث عن "دورٍ" في المنطقة، يحاول من خلاله "تعويض" ما فات، في عزّ "الصراع" الآخذ في التفاقم بينه وبين تركيا مثلاً، وهو صراعٌ على "النفوذ" قبل أيّ شيءٍ آخر.
لكنّ الأكيد أنّ اللبنانيّين وحدهم القادرون على الاستفادة من هذا الحِراك الاستثنائيّ، أياً كانت أهدافه والنوايا المبيّتة خلفه، بما يخدم قضيّتهم ووضعهم، ويقيهم شرّ "الانهيار القاتل" الذي باتوا يتلمّسونه في تفاصيل حياتهم اليوميّة، والذي لم يأتِ انفجار الرابع من آب الرهيب سوى ليكرّس أوضح صورة على "إجرام" طبقتهم السياسيّة المتمادية في "الفساد".
قد تكون المبادرة الفرنسية "فرصة" لماكرون أو غيره للعبور إلى المتوسّط، لكنّها قبل ذلك "امتحانٌ" للبنانيين أنفسهم، الذين لا يزال بعضهم يتفنّن في "الانصياع" للأجنبيّ، فيما الأوْلى أن تكون "المبادرة" من داخلهم أولاً، خصوصاً أنّ "العلّة" منهم وفيهم!.