لا بديل عن الرجوع إلى كربلاء التاريخ لنتذكّر المأساة، ولكننا نريد ان نأتي بكربلاء التاريخ بكلّ تجلياتها الإنسانية والنهضوية وبكلّ عبق الشهادة وتوهّج القضية وإرادة التغيير على المستوى الثقافي والسياسي والاجتماعي، ولنحوّل كربلاء الى وعي لخيارات الحرية التي ترتقي بنا لنواجه الظالمين والفاسدين والمحتلين. وبذلك تتحوّل كلّ أرض إلى كربلاء وكلّ يوم إلى عاشوراء وكلّ شهر إلى محرم. ولا يتحقق ذلك إلا باستعادة الذات المستلبة والعودة الى المكوّن الحضاري للدين الابراهيمي الموحد، الذي لا تستثمره السياسات المنحرفة ولا تشوّهه حركات التحريف والتعصّب والتكفير، وهذا ما يجعلنا الأقدر على مواجهة ظواهر الجهل والتخلف والجمود فنخرج العلاقة بالله من إطارها الطقسي الجامد الى الأفق الثقافي النهضوي الذي تحكمه الغايات والمقاصد الحضارية التي تعنى بصناعة إنسان الكينونة والجوهر لا إنسان الاستهلاك والمظهر.
وبذلك تتحوّل هذه العلاقة من علاقة عمودية بين الإنسان وربه الى علاقة أفقية وحركة تصاعدية تمرّ عبر علاقات الإنسان بالواقع بكلّ إشكالياته وأبعاده المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، انسجاماً مع قوله تعالى “يا أيها الإنسان يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ”.
انطلاقاً من ذلك نبحث عن كربلاء الحاضر فلا نراها إلا بالمقاومين الذين يواجهون غطرسة الاحتلال وصلف الطغيان في لبنان وفلسطين وكلّ ساحات المواجهة، وإلا بالأحرار الذين يتمرّدون على ظلم الرؤساء والأمراء والملوك على حدّ قوله تعالى “الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ” “إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً”
كذلك لا نراها إلا بالجائعين المنهوبين الذين يتلوّعون بسياط الفاسدين خصوصاً في لبنان والعراق وفي أكثر العالم العربي والإسلامي، من هنا يتشكل في وعينا انّ الحسين (ع) ليس القتيل الذي يحتاج إلى مأتم ولكنه الشهيد الذي يحتاج الى أنصار تحكمهم موجبات قضية مواجهة الظلم والقهر فيجسّدون الخيارات الإنسانية والحضارية المنسجمة مع وعي مكونات الذات ويتميّزون بثبات الموقف الذي لا تحكمه عصبية ووضوح الرؤية التي لا تحجبها المصالح ورسالية المشروع الذي لا يسقطه زيف السلطة.
اننا نحتاج إلى قراءة كربلاء المعقول فلا نعبّر عنها بالأساليب غير المعقولة لتكون وسيلة لفتح العقول المغلقة وتعزيز الإرادات الضعيفة ورفع مستوى الوعي المتدنّي، وهذه كربلاء الحسين (ع) في تجلياتها الحضارية وأبعادها الإنسانية تحتاج إلى ثقافة واعية تربط الناس بسمو المعنى ورسالية الدور بعيداً عن لغة الخرافة والتحريف والمبالغة ممن يحرفون نهضة الحسين (ع) ويشوّهون مقاصدها عندما يستغرقون بالأساليب التي تجيش العواطف ولا تبني الوعي وتنقلنا من العقل الديني المتفكر الى العقل الجمعي المتلقي، حيث الاستجابة غير العقلانية لما تردّده الجماعة، وهذا ما نراه في أساليب الضرب بالجنازير والتطبير والمشي على الجمر وأخيراً اساليب اللطم على إيقاعات الموسيقى الأميركية (الراب) وهذا ما لا ينسجم مع العقل الديني وسيرة أئمتنا وفتاوى الكثير من مراجعنا.
اننا نخشى على مكوّنات الهوية من التشويه والتزييف في ظلّ الحرب الناعمة التي تعمل على تعميم ثقافة الاستهلاك وتنمية المظهر على حساب الجوهر، وحيث لا تكتفي بعملية السيطرة والنهب والتحكم بثرواتنا وإخضاع مجتمعاتنا بل تسعى لإفراغ النفوس من أحاسيسها وإنسانيتها ليتحوّل الإنسان الى حيوان مستهلك يتمّ التحكم بمشاعره وذوقه وخياراته، ولأنّ كلّ ما لدينا من عاشوراء على حدّ قول (الإمام الخميني).
فإننا نخشى من تأثيرات الحرب الناعمة التي تطال عاشوراء عبر إفراغها من محتواها الحضاري والحركي في زمن الغفلة وسُبات العقل والأزمة القيمية الني تستنزف الجميع والتحديات الكبرى التي أوقعت مجتماعتنا بين حدّي الاحتراب والاغتراب والإسراف في التقليد والفقر في الإبداع.
ويبقى السؤال كيف نرتقي بالحسين (ع) بعيداً استهلاك المواقف وإشكاليات المعرفة وطقسية التعبير…
*رئيس “لقاء الفكر العاملي”