يمكن القول بكلّ بساطة إنّ الفريق الأميركي الفرنسي عاد الى التسليم بموازين القوى، وبالتالي الإقرار بفشل محاولة تنفيذ انقلاب سياسي، يطيح بالمعادلة السياسية التي أنتجتها الانتخابات النيابية، ويقصي حزب الله المقاوم وحلفاءه عن السلطة… من خلال المحاولات اليائسة، على مدى الأشهر الثمانية التي أعقبت انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، لفرض تشكيل حكومة اختصاصيين، يكون هواها هوى أميركياً، تَتولى تنفيذ الأجندة والشروط الأميركية…
هذه النتيجة عكسها الآتي…
أولاً، الاتفاق على تسمية الدكتور مصطفى أديب لتشكيل حكومة توافقية، تحظى بدعم الأطراف الأساسية في البرلمان… وهو ما كان يطالب ويشدّد عليه حزب الله وحلفاؤه منذ اليوم الأول لاستقالة الرئيس سعد الحريري…
ثانياً، النتائج التي تمخضت عنها زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لناحية الإقرار بموازين القوى، والكفّ عن مواصلة الرهان على إقصاء حزب الله وحلفائه عن السلطة، والمطالبة بنزع سلاح المقاومة لا سيما الصواريخ الدقيقة التي تقلق كيان العدو الصهيوني وتجعله يعيش في كابوس دائم… وبالتالي الاعتراف بعدم القدرة على تحقيق ذلك…وهو الأمر الذي أكدته مواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال اجتماعه مع رؤساء الكتل الأساسية في البرلمان، وفي خلال حواره مع الصحافيين أثر الإجتماع… بالقول، إنّ حزب الله قوة سياسية لها تمثيلها في البرلمان، ومن الضروري التعامل بواقعية للخروج من الأزمة… وطبعاً هذه الواقعية هي الشرط اللازم الذي رأى فيها ماكرون اساساً لتحقيق أمرين…
الأمر الأول، نجاح أيّ دور فرنسي في رعاية إعادة إنعاش التوافق السياسي تحت عنوان… الحيلولة دون الانهيار الشامل…
الأمر الثاني، العمل على استعادة النفوذ الفرنسي الاستعماري، الذي شهد تراجعاً ملحوظاً في لبنان والمنطقة، منذ الغزو الأميركي للعراق، لمصلحة مشروع الهيّمنة الأميركيّة الأحادية… واستطراداً قطع الطريق على إمكانية اتجاه لبنان نحو الشرق، والحيلولة دون دخول الصين وروسيا وإيران على خط الإسهام في حلّ أزمات لبنان وإعادة إعمار بيروت…
ويبدو أنّ ماكرون، الذي قرأ جيداً الواقع اللبناني والتوازنات القائمة، نجح في إقناع الأميركي في تسهيل مهمته، وبالتالي الحصول على تفويض وغطاء واشنطن في تولي جمع الأطراف اللبنانية، بما فيها حزب الله، وإطلاق مسار توافقي لتشكيل الحكومة، تقوم بمهمة الإصلاحات الاقتصادية والمالية الملحة، وإعادة إعمار بيروت، وتأجيل بحث القضايا الخلافية، لا سيما موضوع سلاح المقاومة…
هذا التفويض الأميركي لفرنسا اعترف به وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الذي أكد دعم مبادرة ماكرون ووجود تفاهم بين واشنطن وباريس بشأن لبنان… في حين سبق للمسؤول الأميركي ديفيد هيل أن مهّد للخطوة الفرنسية عندما لفت إلى أنّ واشنطن سبق لها أن تعاملت مع حكومات لبنانية شارك فيها حزب الله…
لكن ماذا يعني كلّ ذلك؟
1 ـ إنّ قوى 14 آذار وبعض هيئات المجتمع المدني “الأنجيؤز” المموّلة غربياً، انكشفت بصورة لا لبس فيها، بأنها تأتمر بالأمر الغربي ممثلا بالأميركي والفرنسي، وأنّ مواقفها وخطواتها إنّما تضبط على الإيقاع الغربي، فعندما كان الغرب يطرح حكومة اختصايّين يُقصى عنها حزب الله وحلفاؤه، التزمت هذه القوى بهذا الموقف ولم تحد عنه قيد أنملة، وعطلت تشكيل حكومة توافقية لمواجهة الأزمة التي فجرها وسعّر نارها الحصار الأميركي الغربي، واليوم عندما رفع الأميركي والفرنسي الحظر عن تشكيل حكومة توافقية بمشاركة جميع القوى، بما فيها حزب الله، سارعت القوى والأطراف المذكورة الى الموافقة، وإذا ما امتعض بعضها واعترض فإنّ ذلك جاء بطريقة هادئة وتعبّر عن خيبة أمل من تبدّل موقف الرئيس ماكرون ومطالبتها له بالاستمرار على موقفه السابق من حزب الله…
2 ـ إنّ نجاح تحالف حزب الله والتيار الوطني وحركة أمل والقوى الوطنية في إدارة معركة إحباط خطة الإنقلاب الأميركي الغربي، أجبر ماكرون على الاعتراف بشرعية حزب الله وتمثيله، هو وحلفاؤه لشريحة كبيرة من اللبنانيين، غير أنّ هذا الاعتراف إنّما هو أيضاً إقرار بشرعية المقاومة التي يمثلها الحزب، وإنْ حاول ماكرون التمييز بين الجناح السياسي والجناح العسكري للحزب،، فهو يعرف كما كلّ العالم أنّ حزب الله، بقيادة أمينه العام السيد حسن نصرالله إنّما هو حزب مقاوم بجناحيه السياسي والعسكري… لكن حتى ينزل الرئيس ماكرون من أعلى الشجرة ويبرّر الاجتماع مع حزب الله ممثلاً برئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، عمد إلى محاولة التمييز بين الجناح السياسي والجناح العسكري لحزب الله…
3 ـ إنّ القوى والأطراف التي كانت وراء استقالة حكومة الحريري، وعطلت في ما بعد تشكيل حكومة توافقية، تتحمّل المسؤولية الأساسية عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية والخدماتية، بسبب إسهامها في الوقوف وراء استمرار الأزمة وعرقلة الحلول وإضاعة الوقت الثمين رهاناً على فرض تغيير في السلطة السياسية يتيح لها العودة إلى الهيّمنة عليها على غرار ما فعلت عام 2005…
4 ـ إنّ قوى الأغلبية النيابية أضاعت فرصة ثمينة لوضع البلاد على سكة حلّ الأزمة، عندما تردّدت وتلكّأت في دفع حكومة الرئيس حسان دياب نحو الترجمة العملية لخيار التوجّه شرقاً وقبول عروض المساعدات والمشاريع الصينية والإيرانية والعراقية والروسية… والانفتاح على سورية لتحقيق التكامل الاقتصادي بين البلدين، كمنطلق أساسي للتوجّه شرقاً… لقد كان من شأن التوجّه شرقاً أن يحرّر لبنان من الارتباط الاقتصادي والمالي الأحادي بالغرب، ويتيح تحقيق التوازن في علاقات لبنان الاقتصادية بين الشرق والغرب… وكان من شأن ذلك أيضاً أن يدفع الغرب إلى المسارعة إلى رفع الحصار عن لبنان والدخول في منافسة مع دول الشرق على تقديم المساعدات السخية، وعرض إقامة المشاريع، من دون أيّ شروط ، وذلك للحفاظ على نفوذه في لبنان…
5 ـ إنّ ما حصل حتى الآن لا يعني أنّ لبنان بات على سكة الخروج من أزماته، وأنّ الغرب تخلى عن اشتراطاته لرفع الحصار المالي… فمن الواضح أنّ الأمر، كما قال ماكرون، مرهون بتنفيذ خارطة الطريق التي اتفق عليها بجدول زمني محدّد، من تشكيل الحكومة إلى إنجاز الإصلاحات المالية والاقتصادية، والتي تشكل إحدى شروط صندوق النقد الدولي لمنح قروض ميسّرة للبنان… وهو أمر يحتاج بالضّرورة إلى ضوء أخضر أميركياّ، وليس فرنسياً… كما أنه من الواضح أنّ تنصيب ماكرون نفسه مشرفاً على تنفيذ هذه الشروط، وإعطاء الحق لنفسه بتهديد الطبقة السياسية بالعقوبات اذا لم تلتزم بما تعهّدت به أمامه في قصر الصنوبر، إنّما يكشف سعي ماكرون لتجديد الدور الاستعماري الفرنسي في ذكرى مرور مائة عام على نشأة لبنان الكبير عام 1920 برعاية المستعمر الفرنسي، وهي النشأة التي قامت على التحاصص الطائفي ليبقى لبنان بحالة من عدم الاستقرار ومبرّراً لاستمرار التدخّل الفرنسي في شؤونه الداخليّة…