كثيرةٌ هي "الفوارق" بين زيارتي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر إلى لبنان، سواء لطبيعة "المهمّة" التي تصدّى لها كلٌّ منهما، أو حتى لـ"أجندة" اللقاءات والنشاطات التي حملتها.
فبالنسبة إلى الرئيس الفرنسي، وعلى رغم حرصه على تغليف زيارته بالطابع "الإنساني"، ومن خلفه "الاجتماعي"، إلا أنّه لم يقصِّر في "تعويم" الطبقة السياسيّة، كما يرى البعض، من خلال المبادرة التي أطلقها، وضمنت لها "عبوراً آمناً" لمرحلةٍ جديدةٍ.
أما مساعد وزير الخارجية الأميركية، فاستبدل استراتيجيّة "التعويم" هذه بسياسةٍ مناقضة انطوت على "احتقار" الطبقة السياسية، كما يحلو للبعض التوصيف، بدليل خلوّ جدول أعماله المُعلَن من أيّ لقاءٍ "رسميّ" مع أركانها، في رسالةٍ متعدّدة الدلالات.
وبين "الاحتقار" و"التعويم"، ثمّة من يرى في "التناقض" الظاهر، "تكامُلاً" مستتراً، أكّده الأميركيّون أنفسهم بحديثهم عن "تنسيقٍ"، ولو أنّ "شيفرته" لم تُفكَّ بالكامل بعد...
"الفرصة الأخيرة"
يتعامل كثيرون مع المبادرة الفرنسية التي أطلقها ماكرون من قلب بيروت، باعتبارها "الفرصة الأخيرة" الممنوحة إلى اللبنانيّين لـ "التنفّس" من جديد، إن جاز التعبير، وبالتالي استعادة ثقة المجتمعيْن العربي والدولي، بما ينهي "الحصار" المفروض على لبنان منذ فترةٍ غير وجيزة، والذي شكت حكومة حسّان دياب من أنّه "كبّلها" ومنعها من تحقيق شيء، بعيداً عن "أطروحات" رئيسها حول الإنجازات.
ولعلّ "الرهان" على هذه المبادرة لا يكمن فقط في غياب "البدائل" بعدما وصلت الطبقة السياسية إلى حائطٍ "مسدودٍ" وباتت "عاجزة" عن الاجتماع في قاعةٍ واحدةٍ بمفردها، ومن دون "رعايةٍ" أجنبية، بعدما أصبحت مقاطعة مؤتمرات الحوار الوطني في قصر بعبدا مدعاة "فخرٍ"، ولكن قبل ذلك، في "الترجمة الفوريّة" لها على أرض الواقع، الأمر الذي تمثّل مثلاً بتسمية رئيس حكومة جديد بـ "شبه إجماع" قلّ نظيره في الآونة الأخيرة، وهو الأمر الذي يدرك الجميع أنّه كان من "المحظورات" لولا "الضغط" الذي مارسه الرئيس الفرنسيّ.
ومع أنّ ماكرون تعامل مع السياسيّين الذين جمعهم في قصر الصنوبر كـ "الأستاذ" في حضرة "التلاميذ النجباء"، الذين سعى بعضهم لإثبات "اجتهادهم" بتقديم "فروضهم" على طريقة "الأوراق الإصلاحية" التي لم يطبّقوا حرفاً منها يوماً، إلا أنّ الأكيد أنّ هؤلاء كانوا راضين ومرتاحين لمسار المبادرة، بل حتى لبعض تصريحات الرئيس الفرنسيّ الذي حرص على رسم "سلّم أولويات" يتناسب وتطلّعاتهم، مُبعِداً من قائمته الانتخابات المبكرة على سبيل المثال لا الحصر، الأمر الذي "خيّب" أصلاً آمال المعارضة والحراك المدنيّ.
وفي حين لفت تحديد الرئيس الفرنسيّ موعداً لزيارةٍ جديدةٍ إلى لبنان في كانون الأول المقبل، في "سابقةٍ" من نوعها، تزامناً مع الحديث عن "مهلة" منحها للمسؤولين اللبنانيّين للمباشرة بتنفيذ الإصلاحات، باعتبار أنّه لن يقدّم لهم أيّ "شيك على بياض"، فإنّ العارفين يضعون ذلك في خانة "الترهيب" الذي يمارسه ماكرون، تماماً كما فعل لضمان تسمية رئيس حكومة سابق، عبر التلويح بعقوباتٍ عابرةٍ للاصطفافات، ولو من خلال تسريباتٍ سارع إلى "التنصّل" منها، إلى حدّ "توبيخ" الصحافيّ الذي نقلها علناً.
رسائل واضحة
صحيح أنّ ماكرون أحاط كلّ ما أثير عن "تعويمٍ" للسياسيين، في سياق مبادرته، باستراتيجيّاتٍ مختلفة خلال زيارتيْه، سواء حين "اختلط" بالناس، متعهّداً بالتعامل حصراً مع المنظمات غير الحكومية، أو بلقاءاته "الاستثنائية" والتي توّجها بلقائه "التاريخيّ" مع السيدة فيروز، إلا أنّ الجانب "النقيض" حضر على هامش زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر.
وقد يكون أهمّ ما في زيارة الأخير، "خلوّها" من أيّ موعدٍ رسميّ مع أيّ مسؤولٍ رفيع المستوى، حتى أنّ اللقاءات "الدبلوماسيّة" التقليديّة غابت عنها، إذ لم يلتقِ المسؤول الأميركي رئيس الجمهورية، ولا رئيس حكومة تصريف الأعمال، ولا رئيس الحكومة المكلّف، ولا حتى رئيس مجلس النواب الذي كان ينتظره كما يقول البعض لاستكمال النقاش بملفّ ترسيم الحدود، بعدما كان السفير ديفيد هيل أحاله إليه حين التقاه في زيارته الأخيرة قبل أيام.
وفي حين يعتقد كثيرون أنّ هذا الأمر، إن دلّ على شيء، فعلى رسالة "تجاهل" أرادت الإدارة الأميركية إيصالها، وقد شملت حتّى "الحلفاء المفترضين" لها في الداخل اللبناني، وعلى رأسهم رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، ما قرأ فيه البعض "احتجاجاً" على عدم مضيّ الأخير في سيناريو "الاستقالة"، بدليل تضمين شينكر "أجندته" في لبنان لقاءاتٍ مع النواب المستقيلين، فإنّ التصريحات التي أدلى بها الرجل جاءت لترفع من حجم "الاحتقان".
فمع أنّ واشنطن أكدت "التنسيق" مع باريس على خطّ مبادرتها الأخيرة، بوصفها "امتحاناً" للقيادات اللبنانيّة، فإنّ "التمايز" بدا واضحاً، خصوصاً على مستوى مقاربة دور "حزب الله" في المرحلة المقبلة، حيث برز تأكيد شينكر على وجوب "إبعاده" من الحياة السياسيّة، باعتباره مصنَّفاً كـ "تنظيم إرهابي"، في مقابل حرص ماكرون على "إشراكه" في لقاءاته، بل "دفاعه" عنه في جانبٍ منها، باعتباره "مكوّناً أصيلاً" من المجتمع اللبناني، وصولاً إلى حدّ تأجيل البحث بسلاحه إلى وقتٍ لاحق.
"ترغيب وترهيب"!
لا شكّ أنّ كثيرين ينظرون بعين "الريبة" إلى "التناقض" الظاهر بين "مهمّتي" ماكرون وشينكر في لبنان، ولو كان الاثنان يؤكدان "حرصهما" على خروج لبنان من "محنته"، ويصبّان جام غضبهما على الطبقة السياسية التي تمادت في "الفساد".
لكن، خلف هذا "التناقض"، ثمّة من يرى "تكاملاً" واضحاً بين الرجليْن، وبالتالي الإدارتيْن، فـ "التعويم" الفرنسيّ، إن جاز التعبير، ليس بالمجّان، وعلى الطبقة السياسيّة أن تدرس خطواتها جيّداً، لأنّ عدم اقتناص "الفرصة" المتوافرة لها اليوم، وبالشكل المناسب، لن يمنحها "بدائل" مريحة في المدى القريب.
كأنّ الفرنسيّين يدعون اللبنانيّين بـ"الترغيب"، إلى الالتزام بـ "تعليماتهم"، كما هي، تحت طائلة الانتقال إلى "الترهيب"، الذي بدأ الأميركيون يرسلون إشاراته، ولو بصورةٍ غير مباشرة، تزامناً مع حديث عن عقوباتٍ غير تقليديّة قد لا توفّر أحداً.
وبين هذا وذاك، ثمّة من يرى في "الإذلال" الذي يتعرّض له اللبنانيون من "أوصياء غير مُعلَنين"، نقصاً في "السيادة"، ولو حظي بـ"مباركة" دعاة "السيادة" قبل غيرهم، لكنّه لم يحصل إلا بسبب طبقةٍ فاسدة، ارتقت بممارساتها من الفساد إلى الإجرام، إلى تشريع الباب أمام الأجنبي، أي أجنبي، للتدخل كما يشاء في الساحة اللبنانية...