إنتهى النصف الأول من «مهلة ماكرون» لتأليف الحكومة بكثير من الصمت. فهل يعني هذا الصمت أنّ «القبضايات»، الذين يضربون أيديهم على الطاولة عادةً ويصرخون: «إمّا شروطنا وإمّا لا حكومة»، قد رَضخوا، أم أنّ هؤلاء «يحفرون» بخبثٍ لإسقاط المبادرة، كما فعلوا يوم جاؤوا بحكومة حسّان دياب؟ البعض يُطَمْئِن: هم يتمنّون «خردقة» الحلّ، ولكنهم محشورون في الزاوية!
وفق «الروزنامة»، خلال أسبوع يجب ان تُعلَن حكومة الرئيس مصطفى أديب، وإلّا فإنّ الرئيس إيمانويل ماكرون يكون قد تلقّى الصدمة مبكراً. ويقول أحد العالمين بالمناخ الفرنسي: «إذا استغرقت مهلة التأليف 20 يوماً بدلاً من أسبوعين، فالانطباع سيكون سيئاً لدى الفرنسيين، لسببين:
1 - لأنّ «الروزنامة» التي وضعوها مضبوطة جداً، بالأسابيع والأيام، ومنسّقة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب المحشورة بالوقت. ولذلك، تُقدِّر باريس ولادة الحكومة بأسبوعين، تليها خطوات إصلاحية «بسرعة صاروخية» في أسبوعين، ثم ينعقد مؤتمر الدعم في باريس، بعد أسبوعين. وأيّ تأخير في أي محطة، ولو لأيام، سيضرب «الروزنامة» بكاملها.
2 - إنّ تَنازع قوى السلطة على الحقائب والأسماء، كما كان يجري عند تشكيل الحكومات السابقة، سيؤكد للفرنسيين أنّ أولوية هذه القوى ما زالت لعبة المال والسلطة، وأن لا مجال للمراهنة على إنقاذ البلد في ظل هذا الطاقم الفاسد. وهذا يعني لفرنسا أنّ عليها الانتقال إلى تأييد وجهة النظر الأميركية المتشدّدة.
وقبل أيام، مَهّد ماكرون لهذا التغيير المحتمل في الموقف الفرنسي عندما أطلق تهديداً واضحاً ومباشراً بمعاقبة مرجعيات سياسية ومسؤولين على مستويات رفيعة، وبمشاركة الولايات المتحدة وقوى أوروبية أخرى، إذا لم يتم التزام الخطوات الإصلاحية المطلوبة.
المتابعون يقولون إنّ السياسة التي اختارتها فرنسا تقوم على منطقٍ يشبه ذلك المُعتمد في قانون العفو في لبنان، أي «عفا الله عمّا مضى»، شرط ألّا يعود المُرتكِب إلى سلوكه السابق. فالفرنسيون ليسوا متحمسين لـ»نبش القبور». وما ارتكبته القوى السياسية من موبقات في الماضي يتركونه جانباً في الوقت الحاضر، وقد تكون هناك عودة إليه للتدقيق والمحاسبة إذا سمحت الظروف.
ولكن، المهمّ اليوم هو أن تبدأ هذه القوى صفحة جديدة، لينطلق البلد مجدداً ويعود إلى الحياة. فإذا عاد المرتكبون إلى ممارساتهم السابقة، يصبح مبرراً فتح ملفاتهم ومحاسبتهم على كل شيء.
الأحزاب والزعامات والمرجعيات التي التقاها ماكرون في زيارته الأخيرة مرتاحة إلى منطق «العفو» الفرنسي في إدارات الدولة ومؤسساتها وماليتها وقطاعها المصرفي، وما يهمها هو أن تؤمِّن فرنسا تدفُّق المساعدات والحماية من العقوبات الأميركية. ولكن، في العمق، لا أحد يريد أن يخسر شيئاً من المكاسب المشروعة وغير المشروعة التي حقّقها ويتمتع بها اليوم، من خلال ممارسته السلطة. ويحاول الجميع ضبط حدود مَطالبه وشروطه ومناوراته بحيث لا يظهر وكأنه يعرقل المبادرة الفرنسية ويستثير ردّة فعل غاضبة من ماكرون.
ثمّة مَن يقول: مصطفى أديب لن يقبل بلعب دور حسّان دياب، لا في التأليف ولا في برنامج الحكومة ولا في الممارسة. وهو عندما يصطدم بالطاقم السياسي سيلجأ إلى «المرجعية» التي اختارته، أي فرنسا. وهناك يصبح علاج المشكلات ممكناً. وهو فعلاً بدأ يعدّ العقبات الموضوعة أمامه.
ومن خلال المعلومات التي رشحت عن الرجل، أنه يميل إلى «تشكيلة إنقاذ»، يكفي أن تقتصر على 14 وزيراً، لضمان الجدّية والسرعة.
لكنّ القوى النافذة تشدُّ بالتشكيلة إلى الاتساع. بعضها يطرح الـ30 مجدداً، ورئيس الجمهورية يحبّذ الـ24. وإذ يبدو مسلّماً به إبقاء وزارة المال من حصة التمثيل الشيعي، فإنّ نزاعاً صامتاً يخوضه «الحزب» للحفاظ على حقيبة وزارة الصحة. وأمّا «التيار الوطني الحرّ» فيعمل للمقايضة على وزارة الطاقة، من خلال المطالبة بحقيبة وزارة الداخلية.
مبدئياً، إذا بقي نزاع الحقائب تحت السيطرة، فلن يتدخل الفرنسيون وسيعتبرونه جزءاً من الحيوية اللبنانية المعتادة. ولكن، إذا تبيَّن أنّ المطلوب إغراق البلد في سيناريو حسّان دياب، فلا الرئيس المكلّف يبدو في وارد الانزلاق ليكون رهينة القوى النافذة، ولا الفرنسيون سيسكتون على ذلك.
وفي المعلومات أنّ المعنيين بالملف اللبناني في باريس، أوصَلوا في الأيام الأخيرة، إلى مرجعيات لبنانية رسائل تحذير جديدة من مغبّة المناورة وإضاعة الوقت، وذكّروا بأنّ فرنسا باتت تمسك مفاتيح الإنقاذ اللبناني بكل تفاصيله المالية والاقتصادية والسياسية، وأنّ كارثة ستحلّ على لبنان إذا سحبت يدها اليوم.
المشكلة هي أنّ طاقم السلطة ما زال ينطلق من النظرية القديمة التي تقول: «إنّ المجتمع الدولي لن يترك لبنان يسقط، مهما حصل، لأنّ مصالحه تقتضي ذلك، ومنها تَدفّق النازحين إلى أوروبا عبر المتوسط». ولكن، ما هي حدود الدلع والمناورات التي سيتحملها الفرنسيون، والأميركيون خصوصاً؟ وكيف سيردّون عليها؟