"السلاح المُتفلّت"... عُنوان لمُشكلة عميقة يُعاني منها لبنان واللبنانيّون، من حيّ الشراونة في بعلبك وُصولاً إلى طريق الجديدة، ومن طرابلس إلى خلدة، على سبيل المثال لا الحصر. وفي الوقت الذي لم تجد فيه السُلطات المُتعاقبة في لبنان، أيّ حلّ ناجع لهذا السلاح المُتفلّت بأيدي بعض اللبنانيّين، والذي ينشر الفوضى والخوف، وأحيانًا يتسبّب بإيقاع قتلى وجرحى، جاءت زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، إلى بيروت أخيرًا، لتُسلّط الضوء من جديد على سلاح متفلّت أشدّ خُطورة، أي السلاح غير الشرعي المُنتشر بأيدي فلسطينيّي المُخيّمات. فإلى متى ستستمرّ هذه المهزلة؟.
إنّ مُشكلة لبنان مع السلاح الفردي بأيدي الكثير من المُواطنين اللبنانيّين ليست جديدة، بسبب عادات إجتماعيّة وعشائريّة مُتوارثة منذ القُدم، وقد إزدادات هذه الظاهرة تفشيًا خلال مرحلة الحرب اللبنانيّة بسبب فوضى السلاح في تلك المرحلة، وإستمرّ إقتناء السلاح من قبل البعض بعد إنتهاء الحرب، بذريعة توفير الحماية الشخصيّة، وتحت ضغط الخوف من الآخر المُختلف! واليوم، لم يعد من وُجود لأيّ مُبرّر لإقتناء السلاح خارج القوى الشرعيّة والرسميّة، لكنّ السُلطات في لبنان عاجزة عن مُعالجة هذه الظاهرة، لأنّها غير قادرة على قمع سلاح هنا وعلى ترك سلاح هناك، وغير قادرة على مُصادرة أسلحة هنا وعلى اغماض عينيها على تخزين أسلحة هنالك. وهذا الأمر جعل الحُلول بحُكم المُؤجّلة في المرحلة الحاليّة، إلى حين التوافق داخليًا على مُعالجة مُختلف الأسلحة المَوجودة خارج أيدي القوى الشرعيّة الرسميّة، وُصولاً ربما إلى التوافق على إستراتيجيّة دفاعيّة يومًا ما.
لكن هذا الشأن اللبناني الداخلي، لا يُبرّر على الإطلاق إستمرار وُجود أسلحة بأيدي أيّ جماعات غير لبنانيّة، أكانت سُوريّة أم فلسطينيّة أو سوى ذلك، مع التذكير أنّ جُذور مُشكلة السلاح داخل المُخيّمات الفلسطينيّة في لبنان تعود إلى مُنتصف القرن الماضي. وليس بسرّ أنّ "إتفاق القاهرة"(1) الذي وافق عليه لبنان في العام 1969، بوساطة مصريّة، وبضغط من قبل بعض القوى اللبنانيّة، وتحت وطأة تحرّكات فلسطينيّة أمنيّة مُشاغبة حصلت في الشمال آنذاك، ضُدّ مخافر قوى الأمن الداخلي ومراكز الأمن العام والشعبة الثانية، كان له أثر سلبي كبير على الإستقرار الأمني في لبنان في النصف الثاني من القرن الماضي، وُصولاً إلى التسبّب بشكل مُباشر بإندلاع الحرب في العام 1975، وما تخلّلها وتلاها من مَصائب وويلات...
واليوم، ومع إنتفاء أيّ دور مُسلّح للفلسطينيّين اللاجئين في المُخيّمات، على الحُدود الجنوبيّة، لم يعد من مُبرّر لإستمرار إقتناء السلاح داخل المُخيّمات في لبنان، خاصة وأنّ عددًا من الجماعات الفلسطينيّة المُسلّحة إنحرف أصلاً عن "الكفاح المُسلّح ضدّ العدوّ الإسرائيلي"، لينغمس في أعمال قتل وسرقة وسطو مُسلّح، وُصولاً حتى إلى الأعمال الأمنيّة المُشبوهة والأعمال الإرهابيّة الخطيرة، في الداخل اللبناني. وبالتالي، إذا كان لبنان يغضّ الطرف مُرغمًا عن الوُجود المُسلّح للفصائل التابعة للسُلطة الفلسطينيّة، ويقبل على مضض التواجد المُسلّح لحركة حماس على أراضيه، وذلك في إنتظار إيجاد حلّ عادل للقضيّة الفلسطينيّة، يُعيد اللاجئين إلى أراضيهم المُحتلّة من قبل إسرائيل، فإنّ إستغلال تساهله هذا، للقيام بعراضات مُسلّحة داخل المُخيّمات، ولقيام رئيس المكتب السياسي لحركة حماس بإطلاق التهجّمات ضُدّ دول غربيّة وعربيّة صديقة للبنان، وكذلك بإطلاق التحديّات الأمنيّة شمالاً ويمينًا، شكّل ضربة قاسية للسيادة اللبنانيّة، وللإستقرار اللبناني الداخلي الهشّ أصلاً، ولمساعي تحييد لبنان عن صراعات المنطقة، خاصة بين إيران ودول الخليج.
إنّ لبنان يرزح حاليًا تحت عبء أشدّ أزمة إقتصاديّة وماليّة في تاريخه، واللبنانيّون يرزحون تحت وطأة أشدّ أزمة معيشيّة وحياتيّة في تاريخهم أيضًا، وبالتالي لا ينقص لبنان ولا اللبنانيّين أن يتحوّل مُجدّدًا ساحة للسلاح الفلسطيني السائب، على حساب أمنه وإستقراره، وعلى حساب إقتصاده وبحبوحة شعبه. فساحات القتال مَفتوحة أمام الفلسطينيّين من داخل الأراضي التي يُسيطرون عليها، من غزّة إلى رام الله، وما بينهما. ومن غير المنطقي تعريض لبنان واللبنانيّين لوزر العمليّات الفلسطينيّة الأمنيّة مُجدّدًا، في الوقت الذي حظّرت فيه دول الجوار الأخرى، أي سوريا والأردن ومصر، أي عمل للفلسطينيّين من أراضيها، وقامت بسحق التحرّكات العسكريّة للفلسطينيّين بالقُوّة!.
في الخُلاصة، لبنان تصرّف مع اللاجئين الفلسطينيّين في السابق، ومع النازحين السُوريّين في الماضي القريب، بكل أخوّة وتعاضد، وكان مثالاً للشقيق المِضياف والمُتساهل، وهو تحمّل ما لا يُمكن تحمّله من مآسٍ كرمى لمشاكلهما، لكنّه لم يجد في المُقابل سوى نكرانًا للجميل، وسوى إتهامات جاهزة بالعُنصريّة. لذلك قد يكون الوقت قد حان–ولو مُتأخّرًا جدًا، لأن تمنع السُلطات اللبنانيّة الأمنيّة الرسميّة تحويل لبنان إلى ساحة سائبة للسلاح الفلسطيني ولغيره أيضًا. فالقتال والجهاد ضُدّ الإسرائيليّين من داخل الأراضي الفلسطينيّة، أشدّ وقعًا وتأثيرًا وفعاليّة بكثير من الإستعراضات الإعلاميّة والعنتريّات من داخل لبنان!.
(1) وُقع إتفاق القاهرة بغرض تنظيم الوُجود الفلسطيني المُسلّح في لبنان، وهو نصّ على السماح للفلسطينيّين المُقيمين في لبنان بالمُشاركة في الثورة الفلسطينيّة.