لم تعد التحالفات الدولية هي ذاتها. سبق ورسمت صورتها منذ إنهيار الإتحاد السوفياتي، بتعاون غربي وإقليمي تقوده الولايات المتحدة الأميركية منفردة. لكن مستجدّات عابرة للقارات فرضت واقعاً جديداً. لم يكن نهوض روسيا الإتحادية بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين وحده كافياً لفرض نفوذ روسي أبعد من حدود الإتحاد. ولا الإنتفاضة الإقتصادية الصينية كانت وحدها كفيلة بتغيير أوجه الصراع. ولا ممانعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أو مشاكسة دول أميركا الجنوبية، غيّرا التوجه الدولي. كلها عوامل تراكمت لتأسيس مرحلة سياسية وإقتصادية مغايرة لما تريده واشنطن.
لكن لم تحسب الولايات المتحدة أن الإنقسامات الداخلية في داخل فريق حلفائها سيساهم في رسم معالم المرحلة الجديدة، وخصوصاً في دول حوض البحر الأبيض المتوسط شرقاً وغرباً.
لا يبدو ان النزاع الجاري بين فرنسا من جهة، وتركيا من جهة ثانية هو مسألة بسيطة. لا يُمكن إستبعاد الحرب المباشرة بين الأوروبيين والأتراك. ما يجري في حوض المتوسط دليل واضح على أن المعركة طاحنة بينهم في سباق على النفوذ والثروات الطبيعية. لكن أين اتحادهم في دول حلف شمال الأطلسي "الناتو"؟. يموت ذاك الحلف الهش الآن من خلال النزاع المذكور. هو بات حلفاً شكلياً عاجزاً عن فعل شيء: لا قدرة سياسية ولا تسووية ولا عقابية على ردع أعضائه عن الصراع فيما بينهم. واذا كان الأميركيون يريدون التنصل من حلف يحتضر عملياً، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيتخذ مجريات الصراع مع تركيا لتأكيد الخروج من "الناتو" وتأسيس حلف أوروبي وازن. سيكون موقف الرئيس الفرنسي مدعوماً من الدول القلقة من تمدد الأتراك: إسبانيا، إيطاليا، اليونان، وقبرص. لكن الحذر يسود في ألمانيا، وهي القوة الوازنة في الثقل الأوروبي.
المهم: أين الإقليم مما يجري؟.
يحاول الأتراك التمدد نحو ساحات إسلامية تحت عنوان ثقافي وعقائدي ووجداني، كما الحال تجاه لبنان وغزة. فيما ثبتوا وجودهم العسكري في شمال سوريا وليبيا. لم يكتف الأتراك بهذا التمدّد، بل وسعوا نفوذهم نحو سواحل اليونان وقبرص. هنا تكمن العقدة التي إستفزت الفرنسيين: لا تقبل باريس بوضع انقره اليد على حقول الغاز في المتوسط. وهو سبب دفع الفرنسيين للمجيء إلى لبنان لمحاولة قطع الطريق على الأتراك.
تصر تركيا على التمدد، يقابلها عناد الفرنسيين في التواجد في الإقليم انطلاقا من لبنان. فهل هناك إتصالات فرنسية-سورية في ذات السياق؟ لا معلومات رسمية، لكن قد تكشف الأيام الآتية عن خط مفتوح بين باريس ودمشق بهدف صد المشروع التركي.
عندما لمس الروس حجم الهجوم الدولي على المتوسط، تقدموا لتثبيت نفوذهم في سوريا، ووضع مداميك إقتصادية بما يخصّ حقول الغاز تحديدا. وهو السبب الأساسي لزيارة الوفد الحكومي الروسي لدمشق في الأيام المقبلة. علما ان الروس يسعون لإيجاد حل بين الفرنسيين والأتراك.
اما الأميركيون فيواصلون انسحابهم العسكري من الإقليم، من سوريا والعراق وصولا الى أفغانستان. وهو أمر معلوم منذ أشهر. لكن اللافت ان الصين لا تقوم بأي خطوة عملية لتوسيع نفوذها هنا. وكأن بكين تعلم ان حربها مع واشنطن ليست في إقليم مشرقي، بل في بحر الصين، حيث يرغب الأميركيون بفرض نفوذ طويل الأمد لمنع بكّين من إستخدام ثروات وفرض النفوذ العسكري والاقتصادي.
اما العرب فيتراجعون الى حدود كياناتهم، ويستسلمون عمليا أمام المد التركي، والتوسع الإيراني، والقدرة الإسرائيلية. لذا، اختارت دول عربية تل أبيب حليفاً لها للتعويض عن خسائرها أمام الآخرين. لكن لا تشير المعطيات الى وجود حروب مباشرة، بقدر ما هي سباقات وضغوطات.
سيبقى لبنان ينتظر التقاط اللحظة المناسبة، اما ليخطو حكومياً، أو لينظّم قواعد اشتباكاته السياسية الداخلية. لكنه حتى اللحظة يدور في الوقت الضائع. فهل يتدخّل الفرنسيون مجدداً لرص صفوفه المبعثرة عبر فرض وفاق حكومي؟ هذا ما ينوي الفرنسيون فعله، لكن الأميركيين يعملون وفق أجندة واشنطن التي ظهر انها مستمرة في أسلوب الضغوط: لم تتغير الأساليب الأميركية ولا العربية تجاه لبنان. وحدهم الفرنسيون يسعون لإيجاد تسوية لبنانية علّمت الأيام انها لا تكون ذات جدوى من دون مباركة او تبنّ خارجي.