هُوَ مَرفوعٌ في وَسطِ الكَنيسة، وعلى قِببِها، ومعلَّقٌ في بُيوتِنا، ومَحفورٌ في قُلوبِنا. هو عَلامةُ النَّصرِ ورايةُ الظَّفر. ومَن يَعي عُمقَهُ يَنحني إجلالًا أمام المَحبَّةِ القُصوى الّتي ظهرت عَليه، أمّا مَن لا يَفهمُهُ فيَلعنُهُ أو يُصَنِّفُهُ في خانَةِ الجُنُون.
إنّه الصَّليب لا محالة. فهو لِلمسيحيّين خلاصٌ، وللمُصلِّينَ عشقٌ، وللتّائبين دربٌ، وللغافِرين مثالٌ، ولِجميع المؤمنينَ تعزيةٌ. هذا هو إيمانُنا: الخالقُ فَدانا بِدمِهِ على الصَّليب لأنَّهُ أحبَّنا أوّلًا.
قد يَقولُ أحدُهم، حاشا أن يتجسَّدَ اللهُ، هذا دنَس. وحاشا أن ندعوَ الأُقنومَ المُتجسِّدَ ابنًا، فَهذا تَشريك. وحاشا أن يُصلَبَ، هذا انهزام. اللهُ يتدنَّسُ إن تَجسَّد. هذا تمامًا ما اعتقدَهُ اليَهود قبلًا ولا يزالون، وآخرون يُكفِّرون التَّجسُّد، أمَّا نحن المَسيحيّينَ، فنفتَخِرُ بِالمَصلوبِ لأنَّ الصَّلبَ قِمَّةُ المَحبّة.
ألم يكن يَستطيعُ أن يُخلِّصَ نفسَهُ وهُوَ الّذي أقامَ المَوتى؟ بِالتَّأكيدِ يَستطيع، ولكن بِصَلبِهِ عَلَّمَنا الفِدَاء. هَذا الفِداءُ جَعَلَ قائدَ المِئةِ يَصرخُ تَحتَ الصَّليبِ: «حَقًّا كَانَ هذَا ابْنَ اللهِ!»(متى ٥٤:٢٧)، وذَلكَ بَعدَ أن صَرختِ الطَّبيعةُ إجلالًا، وأَظلَمَتِ الشَّمسُ تَعبيرًا. كذلك صَرخَ الآباءُ القِدّيسونَ قائِلين: عِشقُنا مصلوبٌ، عِشقُنا قَائِم.
غالبيّةُ المُعتَقَداتِ تَعتَرِفُ بأنَّ اللهَ مَوجود، ولَكنَّ المسيحيَّةَ تُؤمِنُ أنَّ اللهَ تأنَّسَ وصُلِبَ وقَام. فَالتَّأنُّسُ هو الشَّخصَنةُ، وأصبح لِكُلٍّ مِنَّا إلهٌ شَخصيٌّ Un Dieu personnel. وأصبح بِالتَّالي، كُلُّ ما فَعلَهُ الرَّبُّ يسوعُ المَسيحُ يعنِيني شَخصيًّا.
فيسوعُ الّذي دَخلَ أُورشليمَ كَمَلِكٍ في أوَّلِ الأُسبوعِ، سُرعانَ ما اعتَلى عَرشَهُ في نِهايةِ الأُسبوع. هذا العرشُ كان الصَّليب، وإكليلُهُ كانَ شوكَ خطايانا. لقد صَرخَ الشَّعبُ في بدايةِ الأمرِ "هُوشَعنا" أي يا اللهُ خلِّصنا، ولكنَّهم لم يكونوا يُدرِكُونَ أنَّ الخلاصَ ليس بِالمَمالكِ الأَرضِيَّةِ بَل بِالصَّليب.
مَن يستطيعُ أن يَتَقَبَّلَ هذا الأمر؟ صعبٌ جدًا لا بل مُستحيل. ولكن مَنِ اختَبَرَ سِرَّ الصَّليبِ عَبَرَ مِنَ المَوتِ إلى الحَياة، مِنَ الإنسانِ القَديمِ إلى الإنسانِ الجَديد، وخرجَ إنسانًا جديدًا، تائبًا، غافرًا وجبَّارًا بِقُوّةِ المَحبَّةِ اللامُتناهِية. ووَجَدَ نفسَهُ إنسانًا نُورانِيًّا لا يُدرِكُهُ ظلام. هذا الاختبارُ النُّورانيُّ عاشَتْهُ الكنيسةُ مُنذُ البِدايةِ، وتَرجَمَتْهُ فنًّا في جِداريَّاتِها.
ففي كاتدرائية القِدّيس أبوليناريوس (الأنطاكيّ الأصل) في رافينا–إيطاليا مثلاً، نُشاهِدُ في الحِنيةِ صليبًا كبيرًا يعود إلى القرن السّادسِ الميلاديّ (٥٤٩م). هذا الصَّليبُ يَشهَدُ للوَعي الإيمانيّ لأهميّة لاهوتِ الصَّليبِ، وارتِباطِهِ بِالنُّورِ الإلهيّ، إذ إنّه يُصَوِّرُ مشهَدَ التَّجلِّي، حَيثُ كشفَ الرَّبُّ عن ألوهيَّتِه، وشَعَّ منهُ النُّورُ غيرُ المَخلوق. في وسط الصَّليبِ يَسوعُ، وعن يَمينِ الصَّليبِ النَّبيُّ مُوسى، وعن اليَسارِ النّبيُّ إيليّا. وأما التّلاميذُ الثَّلاثةُ بطرسُ ويعقوبُ ويوحنّا، فتُمَثِّلُهم هُنا خِرافٌ ثلاثة.
ليس غريبًا أن يَحُلَّ الصَّليبُ مكانَ الرَّبِّ في مَشهدِ التَّجلّي، لأنّ المَقصودَ واللاهوتَ واحِد. وهذا ما نلاحِظُهُ في صَلواتِنا إذ نبدأُ بِترتيلِ قِطعٍ خاصَّةٍ بِالصَّليب (كطافسيّات) في عيد التَّجلّي، ونستمِرُّ في ترتيلِها إلى عيدِ رفعِ الصَّليبِ الكريمِ المُحيي، أي لمدَّةِ أربعينَ يَومًا.
نعم، إنَّ مكانةَ الصَّليب مِحوَرِيَّةٌ في الإيمان المسيحيّ، مُنذ نشوءِ المَسيحيّة، ومعَ صَلبِ الرَّبِّ عَليهِ تَحوَّلَ الصَّليبُ مِن أداةِ مَوتٍ إلى مُبيدٍ لِلمَوت، وأصبح الصَّليبُ جِسرًا يَنقُلُنا إلى الحياةِ الأبدِيَّة، حياةِ النُّورِ الإلهيِّ الذي لا يَغِيب.
بِالعَودَةِ إلى مَفاعيلِ سِرِّ الصَّليبِ في حَياتِنا، يَقولُ القِدّيسُ مكسيموسُ المُعتَرِفُ(+٦٦٢م): "إنَّ الدُّخولَ في سِرِّ الصَّليبِ يَجعَلُ القَلبَ المُتَحَجِّرَ يَتفَتَّتُ لِيَهُبَّ فِيهِ الرُّوحُ القُدُس. وهذا الدُّخولُ يَجعَلُ مِن كُلِّ واحدٍ مِنَّا تَقدِمَةً وذَبيحَةً حيَّةً مِثلَ دُخولِ السَّيِّدِ إلى الهَيكل".
مِن هنا، كُلُّ إنسانٍ مَدعوٌّ لأن يُوحِّدَ طاقاتِهِ بِنعمَةِ الرُّوحِ القُدُسِ، ليُعايِنَ النُّورَ الإلهيَّ، عِندها نَرتَفِعُ على صَليبِ المَحبَّةِ، ونَرتَقي إلى أَعلى دَرَجاتِ الجَمالِ الإلهِيّ، وحِينئِذٍ تَسكُنُ الغِبطَةُ في القَلب.
هذا تحَدٍّ كبير، وسُؤالٌ يُطرَحُ: هل نحن مُستَعِدُّونَ للدُّخولِ في سِرِّ هذا الحُبِّ الكَبير؟ هل نحن مُستَعِدُّونَ لِنَستَبدِلَ عِشقَنا الأَرضِيَّ والتُّرابِيَّ بِعِشقٍ يَفتحُ أبوابَ السَّماوات؟ إلى الرَّبِّ نَطلُب.