يبدو، حتى الآن، أنّ الطبقة السياسية اللبنانية، تنوي تنفيذ كلّ رغبات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وإن لامست رغباته «المقدّسات»، ومنها التخلّي عن المداورة في الحقائب الوزارية، أو عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فلماذا لا يكمل ماكرون جميله مع اللبنانيين ويعيد بعضاً من ودائعهم المسروقة، في حرب جزئية على الفساد، وربما التخلّص من بعض المسؤولين الفاسدين، في الوقت نفسه، على الشكل التالي:
1 ــ يطلب ماكرون تعيين محكمة مالية لبنانية، خاصة بقضايا الفساد المالي، يتكوّن فريقها من القضاة والمدّعين العامّين اللبنانيين، المعروفين باستقلاليتهم ونزاهتهم، يعاونهم زملاء لهم أجانب، من أصول لبنانية، لديهم خبرة مشهود لها في مجال القضاء والادّعاء في البلاد التي هاجروا إليها، تنحصر مهمّتهم بتقديم الدعم التقني وإضفاء المصداقية على التحقيقات والمحاكمات، بعيداً عن الضغوط السياسية. وهؤلاء متوفّرون بالعشرات، وإن لم نقل بالمئات، وهاجسهم اليومي البحث عن وسيلة لمساعدة بلدهم الأم، لبنان، على استعادة عافيته، ليجد له المكان الذي يستحقّه بين الدول المتقدمة.
2 ــ إنشاء فِرق تحقيق مختصّة، تعمل تحت إشراف هذه المحكمة الخاصّة، وتضم أعضاء لبنانيين وأجانب من أصول لبنانية، على شاكلة المحكمة وللأسباب نفسها.
3 ــ تدعم فرنسا، ومعها ما يُعرف بالمجتمع الدولي، المحكمة وفرق التحقيق، وتشكّل غطاء لها يقف حائلاً في وجه التدخّلات السياسية، مع التعهّد بتأمين الحماية لأعضائها، على أن يكونوا لبنانيين جميعهم، ومن أصول لبنانية على حدِِّ سواء، حتى لا يتعرّضوا لأي نوع من الأذية الجسدية أو النفسية.
4 ــ تباشر هذه المحكمة الملاحقات والتحقيقات من «فوق ومن تحت»، وليس فقط صغار الموظفين الحاليين أو أولئك الذين أحيلوا على التقاعد. وتُرفع جميع الحصانات أمام هذه المحكمة، أسوة بمعظم الدول المتحضّرة حيث لا حصانة للارتكاب الجنائي. كما تُمنح هذه المحكمة صلاحية «المصالحة القانونية» مع من يرغب من المتّهمين بالفساد، بتجنّب المحاكمة العلنية مع ما يرافقها من الفضائح، حتى ولو ثبتت البراءة، أو احتمال ثبوت التهمة.
هذا يعني أن تعطي المحكمة المجال، لمن يرغب، من الذين ثبتت عليهم تهمة الفساد، بإعادة معظم الأموال المنهوبة من الخارج، على أن يُبقي في الخارج ما يكفيه وعائلته لسنين (يبقى الشعب هو الرابح في هذه الحالة، نظراً إلى ضخامة المبالغ المسروقة)، فالمصالحة تقضي، أيضاً، بأن يستقيل المسؤول، ويغادر البلاد لتجنّب السجن. وهنا، تتم المفاوضات على التفاصيل بين المدّعين العامين والمحامين، على شاكلة ما يحصل في البلاد التي تسمح بنظام التفاوض للتأكّد بأن المبلغ المستعاد ليس ضئيلاً نسبة إلى المبلغ المنهوب.
5 ــ يُسمح لصغار الموظّفين بالبقاء في البلاد بعد المصالحة، وإرجاع الأموال، إذا رغبوا بذلك، وتعاونوا تعاوناً كاملاً مع التحقيقات والمحاكمات. وتُعطى المحكمة صلاحية منع المحاكمة، عن الشهود الأساسيين في ملاحقة مسؤولين كبار، إذا لزم الأمر، حسب حيثيات كلّ قضية على حدة.
6 ــ تعطى «إغراءات» قانونية لأيّ مرتكب، يتقدّم من تلقاء نفسه للمحكمة، من خلال محاميه لإجراء مصالحة، حتى قبل أن تبدأ التحقيقات معه.
7 ــ تجري جميع التحقيقات بسرية تامّة لحماية خصوصية الأفراد الذين تثبت التحقيقات براءتهم، حتى مرحلة الادعاء والمحاكمة، عندها تُعلن على الملأ وتجري بشفافية كاملة.
8 ــ تُفعّل هيئة التحقيقات المالية، وربما يتطلّب الأمر إنشاء هيئة رقابة مستقلّة، للإشراف على البنوك، والتأكّد من أنّ الأموال المستعادة لا تُسرق مجدداً، بل تُستعمل لإعادة أموال المودعين، الذين يمكنهم، عندها، التصرّف بها كما يشاؤون.
طبعاً، هناك تفاصيل كثيرة يجب العمل عليها لإنجاح هكذا خطة، ولكن البداية هي في الإرادة، والسؤال هو: هل ترغب فرنسا والمجتمع الدولي فعلاً بإنقاذ لبنان، ومساعدته على التخلّص من الهدر والفساد، وبناء دولة قوية، أم المطلوب اليوم، هو إعطاؤه جرعة من الأوكسيجين فقط، لإبقائه على قيد الحياة، واستعماله، وتوظيف سياسييه في خدمة مصالح الدول الأخرى؟ ومن يجرؤ من السياسيين اللبنانيين على معارضة هكذا خطة، في العلن على الأقل؟! فهم جميعاً يدَّعون رغبتهم بمحاربة الفساد، ويتّهمون الآخرين بالسرقة.
نعتقد بأنّ إجراء تحقيقات ومحاكمات نزيهة ومهنية للفاسدين، هو الطريق الوحيد نحو التخلّص من الفساد واسترجاع الأموال، لأنّ نغمة «كلّن يعني كلّن» و«الجميع فاسدون»، هي غير واقعية وغير عادلة، وتشجّع على الفساد بطريقة غير مباشرة.
تختفي العدالة وتسود الفوضى، عندما يؤخذ «الصالح بعزا الطالح»، ويتشجّع الفاسد، عندما يُحشر مع غير الفاسد فلا يخشى المحاسبة، لأنّه من شبه المستحيل محاسبة الجميع. من المهم، أيضاً، أن يتّفق الجميع، على هذه البديهية: أنّ الفاسد هو من تعلنه التحقيقات والمحاكمات، وليس من تعلنه وسائل الإعلام (التي قد تكون فاسدة أيضاً أو مدفوعة الأجر)، أو ذلك الذي تتناوله وسائل التواصل الاجتماعي، ورسائل الواتساب، المنقولة عن «مصادر مطّلعة»، أو «دوائر قرار»، أو صحف ألمانية أو كويتية، وغيرها!
مدعي عام فدرالي أميركي سابق
مستشار قانوني سابق في سفاراتيّْ الولايات المتحدة في القاهرة والكويت