يبدو من الواضح أنّ التفاهم على تسمية الدكتور مصطفى أديب لتشكيل حكومة توافقية من الاختصاصيين، برعاية الفرنسي، الطامح لاستعادة نفوذه الاستعماري المتراجع، من دون أن يرتبط ذلك باتفاق مسبق على ماهية الحكومة، وممّن يجب أن تتكوّن، وبالتالي ما هو برنامجها الإنقاذي والوطني… يبدو أنّ ذلك كان فخاً جرى نصبه بخبث لفرض تشكيل حكومة على مقاس «المستقبل» والشروط الأميركية الفرنسية، ولإيقاع الأكثرية النيابية المكوّنة من تحالف 8 آذار والتيار الوطني الحر في هذا الفخّ، وإحراجه وجعله أمام خيارين…
الخيار الأول، حشر التحالف بالزاوية في آخر مهلة الـ ١٥ يوماً لإعلان ولادة الحكومة، وهي المهلة التي حدّدها الرئيس الفرنسي ماكرون خلال لقائه مع رؤساء الكتل النيابية، وبالتالي دفع التحالف المذكور إلى قبول تشكيلة حكومية اختارها الرئيس المكلف أديب من ألِفها إلى يائها، واتفق عليها مع رؤساء الحكومات السابقين والراعي الفرنسي الذي كان له دور أساسي في ترشيحه.. وما يعنيه ذلك من تجاهل سافر لنتائج الانتخابات النيابية وتشكيل حكومة من لون سياسي لا تملك أغلبية نيابية تمنحها الثقة في البرلمان.. واستطراداً اضطرار تحالف 8 آذار والتيار الوطني الى منح الحكومة الثقة حتى لا يتهم بعرقلة وإفشال المبادرة الفرنسية، ويقوم بالتالي بخطوة تراجعية لتمرير المرحلة الضاغطة على البلاد نتيجة اشتداد الضغوط وتفاقم الأزمات بعد كارثة انفجار المرفأ وتدمير جزء من العاصمة بيروت.
الخيار الثاني، رفض تحالف ٨ آذار والتيار الوطني الموافقة على هذه الحكومة، وبالتالي عدم موافقة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على توقيع مرسوم الموافقة على التشكيلة الحكومة التي اختارها أديب، باعتبارها لا تراعي شروط التوافق الوطني.. وبالتالي تحميله مسؤولية الفشل لتجاهله العمل على تشكيل حكومة توافقية تعكس التوازنات في البرلمان.. لكن هذا الخيار المتاح كان سيؤدي الى مسارعة الفريق الأميركي الفرنسي الى شنّ حملة مركزة تتهم تحالف الأكثرية النيابية بالمسؤولية عن عرقلة تنفيذ المبادرة الفرنسية واستطراداً تحميله مسؤولية تفاقم الأزمات وعدم الإفراج عن المساعدات الدولية للبنان واستمرار الضغوط الاقتصاديّة والماليّة على اللبنانيين…
انطلاقاً من ذلك سارع تحالف 8 آذار والتيار الوطني إلى قطع الطريق على هذا السيناريو، وقام باستباق وضع أديب تشكيلة حكومته بين يدي رئيس الجمهورية، بالإعلان عن رفض المشاركة في حكومة لم يتمّ التشاور معه بشأنها، وتتكوّن من وزراء تكنوقراط جرى اختيارهم من قبل تيار المستقبل والراعي الفرنسي.. مما دفع أديب ومن ورائه الراعي الفرنسي إلى تأجيل تسليم التشكيلة للرئيس عون، وإتاحة قليل من الوقت لمزيد من المشاورات لتذليل العقبات من أمام إعلان ولادة الحكومة، وهو ما بدأ القيام به رئيس الجمهورية بعد لقائه الرئيس المكلف أمس في قصر بعبدا، وهي المشاورات التي كان يجب على الرئيس المكلف القيام بها وفق الأصول التي يفرضها دستور الطائف، الأمر الذي تمّ تجاهله عن عمد على مدى الـ 15 يوماً الماضية…
ما جرى يؤشر الى الأمور التالية:
الأمر الأول، إنّ الرئيس الفرنسي، وبالتنسيق مع الرئيس الأميركي والإدارتين الفرنسية والأميركية، يحاول من خلال مبادرته، التي قدّمت بثوب إنقاذ لبنان من أزماته ومساعدته على إعادة إعمار بيروت، يحاول تمرير صيغة تشكيل حكومة من «الاختصاصيين التكنوقراط» موالين للغرب، ينفذون توجهاته السياسية والاقتصاديّة والماليّة، وبالتالي يتولون تنفيذ الأجندة الأميركيّة الفرنسيّة كشرط لتقديم القروض للبنان من قبل صندوق النقد الدولي ومؤتمر «سيدر»، وإذا ما تمّ السماح بولادة مثل هذه الحكومة، وإنْ تمّ إدخال بعض التعديل الطفيف عليها لإرضاء الرئيس بري في تسمية وزيراً للمالية، فإنّ ذلك سيشكل انتكاسة لفريق الأكثرية النيابية، كون الفريق الأميركي الفرنسي قد نجح في تنظيم هجوم معاكس، بعد انفجار المرفأ للعودة الى تنفيذ خطته الانقلابية على المعادلة السياسية، بعد فشله في ذلك على مدى الأشهر الماضية… خطة تبدأ بالاستيلاء على السلطة التنفيذية عبر تشكيل حكومة، هواها أميركي فرنسي، وهو أمر لن يسمح به الفريق الوطني، في حين كان رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد قد حذر من خطورة تشكيل هكذا حكومة، منذ استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري اثر انتفاضة 17 تشرين الأول، ورسم بشأنه خطاً أحمر، ولهذا ربط تسمية رئيس حكومة توافقي، من قبل الرئيس الحريري، بالاتفاق مسبقاً على تشكيلة وطبيعة وبرنامج الحكومة.. ولأنّ الرئيس الحريري رفض ذلك، كان الخيار في حينه، من قبل الأغلبية النيابية، تسمية الرئيس حسان دياب وتشكيل حكومة اختصاصيين هواها وطني وليس أميركياً…
الأمر الثاني، إنّ فريق الأكثرية النيابيّة أضاع فرصة ثمينة، لوضع الأزمات في البلاد على سكة الحلّ، عندما فرّط بحكومة الرئيس دياب، وتردّد ولم يقدّم على الأخذ بدعوة أمين عام حزب الله سماحة السيد حسن نصرالله الحكومة للتوجّه شرقاً وتنويع خيارات لبنان الاقتصاديّة وبالتالي تحقيق نوع من التّوازن في علاقات لبنان الاقتصاديّة بين الشرق والغرب، توازن كان من شأنه أن يجعل الغرب يتوقف عن الاستمرار في سياسة الحصار لفرض شروطه، والاسراع في المجيء إلى لبنان وتقديم المساعدات السريعة وغير المشروطة، كما تفعل الصين وروسيا وإيران، للحفاظ على نفوذه وعدم خسارته لمصلحة الصين وروسيا وإيران…
الأمر الثالث، إنّ فريق الأكثرية في مواجهة هذا الهجوم الفرنسي، المصحوب بالخداع الذي يُعرف عن المستعمرين، يحاول إعادة الأمور الى المسار الذي يفرضه اتفاق الطائف لناحية طريقة تشكيل حكومة وفق المعادلة النبيابية.. على أنه يجب لفت النظر الى أنّ فريق الأكثرية يستطيع إسقاط حكومة أديب في البرلمان في أيّ وقت يشعر فيه أنّ الحكومة خرجت عن الثوابت الوطنية الأساسية المرتبطة بالتمسك بحق لبنان في مقاومة الاحتلال والحفاظ على حقوقه وثرواته، إنْ كانت في البحر أو البر، وعدم التفريط بها.. هذه الإقالة ممكن أن تحصل اذا قرّرت الحكومة مثلاً: الموافقة على اتفاق لترسيم الحدود البحريّة والبريّة وفق الشروط الأميركيّة الصهيونيّة، أو إذا وافقت على إجراءات اقتصاديّة وماليّة تستجيب لشروط صندوق النّقد الدّولي، وتمسّ بالوضع الاجتماعي وتجعل لبنان أكثر ارتهاناً للغرب، في سياساته المعادية للمقاومة…
في كلّ الأحوال… إذا ما ولدت حكومة أديب، فإنّ استمرار بقائها رهن قرار الأكثرية النيابيّة، إلى جانب أنّ مثل هذا الحكومة لن تخرج البلاد من أزماتها وتقود الى إيجاد الحلول الشافية لها، لأنها لن تعيد النظر بالسياسات الريعية التي تسبّبت بالأزمات المالية والاقتصادية وإفقار اللبنانيين، لأنّ رئيس الحكومة وفريق المستقبل الذي يشارك فيها هم من تبنّى وانتهج هذه السياسات.. لذا يمكن القول إنها ستكون حكومة انتقالية لوقف زحف الكارثة الاقتصادية والمالية، ولتقطيع الوقت ريثما تتضح ملامح الوضعين الإقليمي والدولي، بعد إجراء الانتخابات الأميركيّة في تشرين الثاني المقبل، ومعرفة طبيعة السياسة التي ستعتمدها الإدارة الأميركيّة، جمهورية كانت أو ديمقراطية، في المرحلة المقبلة.. هل تتكيّف مع موازين القوى الجديدة وتدخل في تسويات على قاعدتها؟ أم تستمر في سياسة التصعيد عبر مواصلة الحصار المالي والاقتصادي ضد خصوم السياسة الأميركيّة ومعارضي هيمنتها في لبنان وعموم المنطقة والعالم؟