لا يجادل عاقل في انّ لبنان يعيش أزمة نظام مستحكمة وأنّ العلاجات التي اعتمدت والمبادرات التي تطرح من الشرق والغرب تصطدم بهذا النظام غير القابل للإصلاح، فكيف يمكن لنظام طائفي يقوم على التمييز والاستئثار والإقصاء والاستتباع والمحاصصة ونهب المال العام بعيداً عن المحاسبة ويحصّن أمراء تسلطوا على طوائفهم ويمنع المسّ بهم نظام كلما اهتزّ يعيد إنتاج ذاته بشكل او صيغة أسوأ مما سبق. كيف لمثل هذا النظام ان يصلح وقد جربت عمليات الترميم والترقيع خلال سبعة عقود سبع مرات بمعدل مرة في العقد تقريباً او أقل او أكثر بقليل.
فبعد الاستقلال في العام 1943 انفجر النظام في العام 1952 بسبب الفساد، ثم انفجر في العام 1958 بسبب محاولة التبعية والارتهان للخارج، ثم انفجر في العام 1969 ثم في العام 1975 بسبب الخلاف حول القضية الفلسطينية والسلاح الفلسطيني، فكان انفجار انقلب الى حرب أهلية ودعوة الى رفع الغبن ووقف حكم الطائفة الممتازة، وقبل أن تعالج ذيول تلك الحرب كان انفجار 1984 بسبب العلاقة مع «إسرائيل» واتفاقية 17 أيار، والأسوأ مما ذكر كان الانفجار داخل الطوائف ذاتها بين الشيعة والشيعة والموارنة والموارنة ثم كان الانفجار الأخطر في العام 2005، وها هو اليوم على عتبة انفجار جديد في ظل ما يجري في المنطقة من إعداد للتسويات واقتسام مناطق النفوذ ورسم الخرائط البديلة لخرائط سايكس بيكو.
في العقود السبعة الماضية كان النظام اللبناني يرمّم نفسه بعد كل انفجار بمساعدة خارجية ترميماً يبقي العلة الطائفية ويخدره او يعطيه بعض ما يشغله عن ألمه، فكانت على سبيل المثال قاعدة توقيع رئيس الوزراء على المراسيم والقوانين كلها الى جانب رئيس الجمهورية (ما خلا مرسوم تعيينه) ثم كانت قاعدة الـ 6 و 6 مكرر التي ابتدعها فؤاد شهاب ليسير نحو عدالة أفضل في الوظيفة العامة بين المسلمين والمسيحين، ثم كانت إصلاحات الطائف التي طبقت انتقائياً وزادت الأمر سوءاً، ثم كانت تفاهمات الدوحة التي وضعت حدا للاستئثار والهجوم الغربي بعد انفجار 2005، ولكن كل ما تقدم لم يدم أثره طويلاً لأن العلة الطائفية بقيت ثابتة داخل النظام اللبناني لا تمسّ.
اما السيادة والاستقلال فحدث ولا حرج حولها إذ نادراً ما كان لبنان يعيش شيئاً منها، وجل ما كان يتغير كانت مساحة التدخل او الرعاية او الوصاية الأجنبية والتبعية للخارج، حيث استحوذت خلال العقود السبعة الماضية دول عدة على قرار لبنان (مصر والسعودية وسورية وفرنسا وأميركا) تمارسها منفردة او بشكل ثنائي او ثلاثي مجتمعة ويستسيغها افراد الطبقة السياسية لا بل ينخرطون في طلب المزيد من التدخل الخارجي الذي يستفيدون منه. وهكذا كان لبنان ينتقل من يد الى يد ومن وصاية الى وصاية لكن الوصاية الغربية خاصة الفرنسية والأميركية كانت دائماً حاضرة تمارس بشكل مباشر دونما اقنعة او بشكل دبلوماسي مقنع يراعي ظاهراً «كرامة المسؤول» التي تداس في السر وبأبشع أنواع الإهانات.
وبسبب طبيعة هذا النظام الظالم المعيب ومن أجل التخفيف من حدة مساوئه اوجدت الى جانب النصوص الدستورية نصوص مؤقتة او اعراف «يخجل» أصحابها ادراجها في نصوص ثابتة لانها في الواقع خارج العصر ولا تتماشى مع أسس العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية. وابتدعت لتغطية ذلك بدعة «الميثاقية» التي تحولت الى المشجب الذي تعلق عليه كل نزعة طائفية او يواجه بها سلوك استئثاري. وتعاظم شأن «الميثاقية» البدعة الى حدّ باتت تشكل سيف تعطيل كل إصلاح وكل تطوير وكل محاولة للعدل والإنماء الوطني او المحاسبة او الخ…
وبسبب ذلك بسبب هذا النظام السيّئ، انهار لبنان وفسد اقتصاده ونهبت أمواله وجاع شعبه وتهدد أمنه حتى وضع مصيره ومستقبله كله تحت علامة استفهام كبيرة. وهنا جاءت «المبادرة الفرنسية الإنقاذيّة»، فصفق لها الجميع تقريباً ورحبوا بها علها تنقذ الوطن خاصة أنها تضمنت «عبارة سحرية» قد يعتد بها لتكون مدخلاً للإصلاح الحقيقي وليست جرعة تخدير، كما اعتاد لبنان، عبارة تتصل بأصل النظام، حيث طرح الرئيس ماكرون وبكل وضوح الدعوة الى «عقد سياسي جديد» ما فسّره المعنيون خاصة المظلومون في هذا النظام والأكثرية الشعبية منهم فسّروه دعوة الى نظام جديد عصري عادل يتم الوصول إليه بالتفاهم بين اللبنانيين بمساعدة خارجية.
وكان المدخل لتنفيذ المبادرة الفرنسية إقامة حكومة انتقالية مؤقتة تأتي من خارج المتعارف عليه في الحكم تتولى مهمة محدّدة هي إجراء الإصلاحات السريعة المانعة من الانهيار والإعداد لبيئة سياسية تبحث عن العقد السياسي الجديد عبر انتخابات مبكرة وفقا لقانون انتخابي عادل. واختارت فرنسا لترؤس حكومتها تلك أكاديمياً ذا جنسية مزدوجة لبنانية وفرنسية يتمتع بغطاء واسع من طائفته، لديه الاستعداد والنية الحسنة لإنجاح المبادرة، وتلقف الأطراف في لبنان هذا الاختيار بشبه إجماع لم يخرج عنه الا الفريق الملتزم كلياً بالقرار السعودي ـ الأميركي، الذي فضل البقاء بعيدا في الاحتياط ليوحي بالضغط ولمنع وضع الأوراق كلها في السلة الفرنسية.
من اللحظة الأولى اظهر كل من دعم المبادرة الفرنسية رغبة في إنجاحها وتسهيل مهمة رئيس الحكومة المكلف، لكن خشية الأخير من الوقوع في العثرات التي اعترضت أسلافه لدى تشكيل الحكومات، دفعته الى نمط جديد في التشكيل وفقاً لقواعد ومبادئ عامة التزمها، منها الاكتفاء بالتشاور مع الكتل النيابية المعلنة حسب الدستور لمرة واحدة، ومنها المداورة في الحقائب الوزارية، ومنها توزير المستقلين وعدم توزير من وزّر سابقاً خشية نقل تجربته الفاشلة إلى الحكومة الواعدة.
بيد ان بعض هذه المبادئ يكاد يتجاهل الحاجة الى الكتل النيابية لمنح الثقة، كما ان تطبيقها أطاح بما يعتبره البعض شأناً ميثاقياً، خاصة رئيس المجلس النيابي الذي خول بالنطق باسم الثنائي النيابي الشيعي، حيث اعتبر ان اتفاق الطائف ومن اجل ضمان حقوق الطائفة الشيعية في السلطة التنفيذية أعطاها وزارة المالية ليضمن توقيعها على المراسيم التي ترتب أعباء مالية على الدولة (أي نسبة تتجاوز الـ 90% من المراسيم). وهنا ردّ طرف مسيحي برفض هذه المقولة التي حسب رأيه تقيم المثالثة في النظام بدل المناصفة القائمة، أي نشب خلاف حول الموضع بدأ سنياً شيعياً ثم تطوّر شيعياً مارونياً ولا ندري الى أين يصل إنْ لم يحلّ، والسبب العلة الطائفية ذاتها.
لو كان النظام عادلاً متوازناً لما كانت حاجة الى طرح الميثاقية ثم تفسيرها بما يناسب من طرحها ولما كانت حاجة الى اظهار المظلومية والخوف من قبل فريق ضد فريق ولما استعيدت مراحل تاريخية مؤلمة الى المشهد اللبناني أقربها مشهد الـ 2005 الذي كان فيه انقلاب سياسي أعقب انفجار الحريري، ثم كانت محاولات العزل والإقصاء التي أعقبتها محاصرة دولية وحرب إسرائيلية وتمددت حتى كادت أن تكون فتنة في الداخل وحرب أهلية منعت تفاهات الدوحة حصولها.
إن الميثاقية هي الاسم الحقيقي للطائفية السياسية وهي المقصلة الحقيقية للمواطنية وهي سلاح الطبقة السياسية الفاسدة للدفاع عن نفسها، ولكن الخروج منها لا يكون مع بقاء نظام أثبت فشله، ولا تحلّ الأمور هكذا بل قد تسبب بانفجار يختلف في مداه عن كل ما سبقه في ظل ما ذكرنا أعلاه من واقع تمر به المنطقة ويرشح فيه لبنان لأن يكون جوائز ترضية لمن فاتهم الربح في الميدان الأساسيّ من اللاعبين الأساسيين في الإقليم ودولياً.
لكل ما تقدّم ومع رفضنا الكلي للمنطق الطائفي ولنظام المحاصصة المقيت فإننا ندعو الى تجنب القفز في المجهول والأخذ المؤقت بالميثاقية المدعاة مع تحييد الطبقة السياسيّة عن الحكومة الانتقاليّة ثم البحث عن نظام جديد في مؤتمر تأسيسي وطني لا بدّ منه يراعي حقوق الجميع بعدالة لا تشعر فيه فئة او مكون او طرف بانه مظلوم او منتقص الحقوق؛ وهذا لا يكون الا بنظام دولة المواطن وليس دولة الطوائف.