أدركت «إسرائيل» ومعها الولايات المتحدة انّ توقيع اتفاق كامب ديفيد عام ١٩٧٨ مع مصر، والذي أسهم في إخراجها من دائرة الصراع العربي الصهيوني، لم يحقق الهدف المطلوب وهو كسر جدار العزلة العربية والأفريقية والآسيوية والأميركية اللاتينية، من حول «إسرائيل»، ولن يمنحها «الشرعية» التي تريدها، واكتشفت أنّ السبيل لكسر هذه العزلة إنما يكمن في إحداث خرق في جدار الموقف الفلسطيني الذي يشكل الأساس في إبقاء وإدامة هذه العزلة، فطالما ظلّ هذا الموقف رافضاً الاعتراف بوجود «إسرائيل» ويستمرّ في الرهان على مواصلة خيار المقاومة الشعبية المسلحة سبيلاً لتحرير فلسطين لن تحصل «إسرائيل» على الاعتراف بوجودها وتكسر المقاطعة من حولها، لا سيما في العالم العربي، الذي يشكل الأساس كي تصبح «إسرائيل» دولة طبيعية مندمجة في المنطقة، لا تعيش فقط على المصل الأميركي الغربي، وإنما تتحوّل إلى مشروع يعيش بإمكانياته الذاتية من خلال تحوّل «إسرائيل» إلى المرتكز والمحور الأول في المنطقة الذي يستقطب رؤوس الأموال العربية ويستغلّ اليد العاملة العربية الرخيصة والنفط العربي وموقع فلسطين على البحر المتوسط وتوسّطها الوطن العربي بين المشرق والمغرب، وبالتالي تصبح «إسرائيل» هي قلب المنطقة والقوة الهيمنة عليها، والمحطة التي كلّ دول المنطقة بالمركز الرأسمالي الغربي… عندها فقط يتحقق الحلم الصهيوني في السيطرة على المنطقة وتغيير هويتها، والتربّع على عرشها كمشروع استعماري استيطاني يخدم المشروع الاستعماري الغربي الذي كان وراء إنشاء «إسرائيل» للعب هذا الدور وهذه الوظيفة…
اتفاق أوسلو، الذي وقع في ١٣ أيلول من عام ١٩٩٣ بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة العدو الصهيوني، سهل تحقيق هذا الحلم الصهيوني عندما دشن رأس جسر الانفتاح على الكيان الصهيوني والاعتراف فيه.. فهو وفر المناخ المواتي بداية بإقدام المملكة الأردنية على توقيع اتفاق «وادي عربة»، ووفر الفرصة للعديد من الانظمة العربية التابعة للغرب للاتصال والاجتماع علناً مع مسؤولين صهاينة، بعد أن كانت مثل هذه اللقاءات محرّمة وتجري في السابق بشكل غير معلن، كما أنّ توقيع اوسلو أسقط مبرّرات استمرار مقاطعة دول عدم الانحياز في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية للكيان الصهيوني… هكذا فقد نجح أوسلو في أن يحقق لـ «إسرائيل» مكاسب لم تكن لتحلم بتحقيقها…
لقد كانت الأولوية الأساسية للقيادة الصهيونية تكمن في العمل على انتزاع الاعتراف بوجود الكيان الصهيوني ودمجه في المنطقة، وتحويله من كيان غاصب غير شرعي لا يحظى بالاعتراف بوجوده، الى كيان يحظى بمثل هذا الاعتراف بداية من قيادة منظمة التحرير، ومن قبل الدول العربية والأفريقية والآسيوية والأميركية اللاتينية، وكانت هذه الأولوية تتصدّر قائمة جدول أعمال الحكومات الصهيونية التي كانت ترى أنّ الكيان الصهيوني لا يمكن أن يعيش ويستمرّ إذا ما بقي معزولاً في محيطه المباشر وثم في المحيط الأقرب للمحيط العربي، وأنّ الحلقة الأساسية التي تحول دون كسر جدار العزلة والمقاطعة المفروض على «إسرائيل» إنما تكمن في منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، المعترف به عربياً ودولياً، والتي إذا ما جرى استمالتها واغرائها وخداعها بتوقيع اتفاق يعترف بـ «إسرائيل» مع وعد بتحقيق السلام وإقامة دولة فلسطينية، فإنه سيفتح الطريق أمام «إسرائيل «لكسر جدار العزلة من حولها تحت عنوان.. «لماذا يا عرب أنتم ملكيين أكثر من الملك».. طالما أنّ منظمة التحرير اعترفت بوجود «إسرائيل» بموجب اتفاق أوسلو ونجري معها مفاوضات للتوصل إلى اتفاق نهائي لتحقيق السلام، فلماذا تستمرون في عدم إقامة العلاقات معنا وتستفيدون من ثمار هذه العلاقات بدعم اسرائيلي في مجالات عدة…؟»
إنّ جريمة أوسلو تكمن في أنها كسرت المحرمات في الصراع مع عدو الأمة العربية.. فكرّست الاعتراف بوجود «إسرائيل» من قبل منظمة التحرير، وفتحت باب إقامة العلاقات عربياً واسلامياً مع الكيان الصهيوني، وإشاعة الوهم حول تحقيق السلام وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية…
هذه هي جريمة أوسلو التي نحصد نتائجها هذه الأيام انفتاحاً عربياً على كيان العدو الغاصب، وتشجيعاً له على تنفيذ خطة القرن لتصفية القضية الفلسطينية، وشطب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني…
لهذا فإنّ ما هو مطلوب اليوم قبل الغد، إقران الاتفاق على تشكيل قيادة فلسطينية للمقاومة الشعبية الموحدة ضدّ الاحتلال، بالتخلص من نهائياً من اتفاق أوسلو المشؤوم الذي لم يعد له من وظيفة سوى توفير المبرّرات لإضفاء الشرعية على إقامة العلاقات مع كيان العدو الصهيوني.. فكيف تستطيع السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير مطالبة الدول العربية مقاطعة «إسرائيل» وهي تقيم مثل هذه العلاقات وتستمرّ باتفاق أوسلو، ولم تعلن الخروج منه وسحب اعترافها بـ «إسرائيل» بعد أن انقلبت الأخيرة على كلّ التزماتها فيه، وأعلنت موت الاتفاق وجعلت من السلطة رهينة لديها وأداة أمنية لحماية الأمن الصهيوني ليس إلا…
قد يقول البعض إنك تغالي عندما تصف اتفاق أوسلو بالجريمة، ولكن هل هناك جريمة أكبر وأفظع من جريمة الاعتراف بوجود كيان غاصب احتلّ الأرض وشرّد الشعب وارتكب المجازر وانتهك الحرمات والمقدسات ولا يزال… إنّ وضع حدّ لهذه الجريمة والتمادي بها، هو السبيل لوقف استغلال أوسلو من قبل العدو الصهيوني وبعض الأنظمة التي تدور في الفلك الأميركي.. كما أنّ وضع نهاية لهذه الجريمة بإعلان الخروج نهائياً من اتفاق أوسلو وحل السلطة الفلسطينية وعودة منظمة التحرير إلى دورها التحرري الحقيقي، هو السبيل الذي يعزز المقاومة الشعبية والمسلحة، ويضع حداً ما يجري من استباحة للحق العربي في فلسطين، وتسابق الأنظمة التابعة للأميركي على إقامة العلاقات مع كيان العدو والاعتراف به، تحت شعار «لسنا ملكيين أكثر من الملك»… فمتى يسدل الستار على جريمة أوسلو وتنتهي هذه المسرحية… التي رسمت أوهام السلام مع عدو غاصب للأرض والحقوق، وأقامت جسر الانفتاح على «إسرائيل».. التي طالما جاهر وأعلن قادتها الصهاينة انهم لن يقبلوا إلا بمعادلة «السلام مقابل السلام»، وهو أمر عاد وأكد عليه أمس رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو. أيّ أنه يقول للحكام العرب بأنّ عليكم أن ترفعوا راية الاستسلام لكيان العدو الذي اغتصب الأرض والحقوق، والتسليم والاعتراف بشرعيته والتخلي مطلقاً عن المطالبة بأيّ حقوق عربية في فلسطين، مقابل منحكم «السلام الصهيوني».ة
إنّ أقصر الطرق لوقف هذا الانحدار والتخاذل الرسمي العربي ووضع حدّ لتجرّؤ بعض الحكام العرب على تجاوز الحقوق العربية الفلسطينية والسير في ركب الحكومات التي وقعت اتفاقيات صلح مع العدو الصهيوني والاعتراف باغتصابه أرض فلسطين المحتلة، إنّ أقصر الطرق، لوقف هذا الانحدار، إنما يكون بإعلان فلسطيني موحد استعادة منظمة التحرير دورها التحرّري الموحّد لكلّ القوى والحركات الوطنية والإسلامية المقاومة والفاعليات الفلسطينية، والذي يرسم سقف الموقف الوطني الفلسطيني المتمسك بالحق العربي الفلسطيني كاملاً دون نقصان، ويعتبر أيّ اعتراف بكيان الاحتلال خيانة للقضية المركزية للأمة جمعاء، واستسلاماً للعدو.. لكن استعادة هذا الموقف الفلسطيني الموحد مرهون بالتخلص من اتفاق أوسلو وحلّ السلطة الفلسطينية.. والتأكيد أنّ الحليف الحقيقي للشعب الفلسطيني ومقاومته إنما هو محور المقاومة الذي يبذل الدماء دفاعاً عن فلسطين ورفضاً لأيّ تفريط بالحقوق العربية فيها.. فما يحصل يجب أن يكون درساً لتحديد الصديق من العدو…