عندما حطّ إسم سفير لبنان في ألمانيا مصطفى أديب في دائرة المطروحين لتأليف الحكومة، جرى إستحضار ما تيسّر عن الآتي من النادي الدبلوماسي إلى رئاسة مجلس الوزراء، فإعتقد اللبنانيون أن رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي نجح في فرض مرشحه على باقي رؤساء الحكومات السابقين، ثم على الكتل النيابية. لكن تبين أن صدى إسم صهر باريس فعّال في الدوائر الفرنسية، ليس بسبب زوجة أديب، ولا نتيجة إعجاب أوروبي بسفير لبنان في ألمانيا، بل لأن هناك من سوّق إسم الدبلوماسي بين الفرنسيين الساعين إلى تحقيق مكاسب سياسية وإقتصادية في عاصمة أساسية تقع في قلب حوض شرق البحر الأبيض المتوسط. قد تكون لباريس حساباتها أيضاً في السباق القائم بين الفرنسيين والأتراك، علماً أنه يُحكى عن علاقة جيدة بين ميقاتي وانقره.
نال أديب رقماً محترماً في عدّاد التكليف، بشكل أوحى بوجود شبه إجماع وطني على إعطائه الثقة لرسم طريق الإنقاذ. لكن الرئيس المكلّف لتأليف الحكومة قام بخطوات يتيمة لم تعتد عليها القوى السياسية في لبنان: لا اتصالات، لا لقاءات، لا تشاور، سوى ما إقتصرت عليه الإستشارات العادية، والتي هي عادة شكلية أكثر مما هي ذات فاعلية وإنتاجية. مما إضطرّ رئيس الجمهورية ميشال عون للتدخل والتواصل مع الكتل في لقاءات سريعة، بهدف الوصول إلى نتيجة. اساساً، لا يمكن لرئاسة الجمهورية التنازل عن صلاحيات ثبّتها الدستور وكررتها الوقائع، بعدما أوحت خطوات أديب أنه لا يكترث لدور رئاسة الجمهورية في عملية التأليف. هي المرة الأولى منذ ما بعد إتفاق الطائف يتصرّف فيها رئيس الحكومة المكلّف من دون إكتراث لا بالقوى السياسية ولا برئيس الجمهورية، وهو أمر لا يقبله أي رئيس جرى العرف بأن تكون حصّته لا تقل عن ثلاثة وزراء في أي تشكيلة حكومية.
أوحت خطوات الرئيس ميشال عون أنه يثبّت دوره المركزي، قبل مناقشته الأسماء في التشكيلة الوزارية، وهو ما دفع أديب إلى التراجع عن نيّته تقديم التشكيلة في زيارته التي قام بها الإثنين إلى بعبدا. لو كان عون وافقه على أسلوبه ونواياه الحكومية، لكان أديب قدّم التشكيلة غير مكترث بمعارضة "الثنائي الشيعي" على الصيغة. كل المؤشرات أظهرت أنّ رئيس الجمهورية حفظ التوازن في البلد، ومنع إدخال لبنان في أزمة قد تودي به إلى انفلات داخلي. بانت معالم الأزمة في حديث المقرّبين من "حزب الله" عن إفشال محاولة إنقلاب كان ينفّذها أديب.
فلماذا اقدم رئيس الحكومة المكلّف على ذاك التصرف؟.
يقول المطّلعون أن رئيس الحكومة السابق سعد الحريري هو من تولى توجيه أديب. كأنه هو رئيس حكومة الظل: منعه من إجراء لقاءات وإتصالات مع القوى الوازنة خارج إطار الإستشارات. فرض عليه أن يرفع سقفه بوجه "الثنائي الشيعي" والتيار "الوطني الحر". وصل كلام للمعنيين عن أن الشيخ سعد إعتقد أن الدور الفرنسي كاف بفرض لعبة سياسية تُنهي أدوار حركة "أمل" و"حزب الله" و رئيس الجمهورية والنائب جبران باسيل. فهل حاول توريط أديب؟ أم الإنتقام من باسيل؟.
ابلغت مصادر "النشرة" أن الحريري ذهب بعيداً في ممارسة سياسة جديدة غير معهودة في التركيبة اللبنانية، مستغلاً حاجة لبنان إلى مساعدات مالية إنقاذية من العواصم الدولية التي كان يمثلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطواته اللبنانية. لذلك عندما فاوض الحريري رئيس المجلس النيابي، أوحى له بالإستقواء بالفرنسيين. ربما إعتقد رئيس الحكومة السابق أن بري اصيب برعب سياسي جرّاء فرض عقوبات أميركية على معاونه النائب علي حسن خليل، لكن بري أظهر العكس من خلال بيانه، ثم توسيع دائرة المتضامنين معه بشأن رؤيته للحكومة التي نالت ضمنياً موافقة كتلتي "الوفاء للمقاومة" و"اللقاء الديمقراطي". قيل إن رئيس الحزب "التقدمي الإشتراكي" وليد جنبلاط ذهب الى باريس لإقناع الفرنسيين بوجوب عدم السماح بعزل الشيعة، وتحديدا بري.
تبين بعدها أن الحريري فشل في فرض طموحاته عبر حكومة أديب التي كان مخطط لها ان تشرف على رسم خريطة إقتصادية-مالية قائمة على توزيع استثمارات في المرفأ وقطاعي الكهرباء والخليوي. تردّد هنا أن شركات فرنسية تحضرّت بالتعاون مع لبنانيين نافذين يحيطون بالحريري وميقاتي لتقاسم نفوذ إقتصادي جديد. يمكن فهم أبعاد الورقة الفرنسية لتوظيف بعض بنودها في هذا الإتجاه. فهل كان هذا هو السبب الذي منع أديب التنازل عن حقيبة المالية للثنائي الشيعي؟.
هل أصبحت خطة رئيس الحكومة في حُكم الميّتة؟!. لكن الحريري لم يخسر شخصياً، بل هو كان سيربح بجميع الحالات: لو نجح اديب لكان حصد مكاسب فورية. وفي حال رسّخ رئيس الحكومة المكلّف تراجعه بإعتذار عن عملية التكليف، سيربح الحريري أمام القوى السياسية بأنه وحده القادر على تدوير الزوايا السياسية والحكومية واستحضار الدعم الخارجي.
فهل يكون ميقاتي هو الخاسر الوحيد؟ لا يقتنع أحد في لبنان أنّه لم يعط تعليمات ونصائح لأديب في هذه الفترة. ولو شاء لكان أقنعه بالإنفتاح وسلوك طريق مختلف ومرن. هذا ما يردّده سياسيون من مختلف الكتل. مما يعني أنّ الإستياء السياسي من جمود أديب هو إستياء من دور ميقاتي. وانّ فشله في التأليف الحكومي هو فشل لميقاتي. ولماذا يسمح الحريري بأن يحقّق الاخير أي مكسب أو ربح؟ لقد وقع ميقاتي في فخ الحريري وأوقع معه أديب الذي قد يتوجه للإعتذار في الساعات المقبلة في حال لم تتغير التكتيكات السياسية بدعم فرنسي يُنزل الجميع من أعلى الشجرة الحكومية.