«ولي بين الضلوع دم ولحم
هما الواهي الذي ثكل الشبابا
ولو خلقت قلوب من حديد
لما حملت كما حمل العذابا
فمن يغتر بالدنيا فإني
لبست بها فأبليت الثيابا
فلو طالعت أحداث الليالي
وجدت الفقر أقربها انتيابا
وأنّ الشرّ يصدع فاعليه
ولم أرَ خيراً بالشر آبا»
(أحمد شوقي)
في العرب ثلاثة شعراء رأيتهم الأكثر بلاغة، وقد يزيد البعض عليهم حسب مزاجهم في الأدب، لكنني وجدت عظمة الشعر في المتنبي وسعيد عقل وأحمد شوقي. فالثلاثة كانوا متعاظمي الذات الى درجة الخروج من ذواتهم، للإبحار في سماء الكلمات والمعاني. وكما يقول الفيلسوف مارتن هيدغر، فإنّ الشعر هو أعلى مستويات التعبير في اللغة. وفي الأبيات التي انتقيتها من قصيدة «سلوا قلبي» التي غنّت بعضاً منها أم كلثوم، رأيت واقع لبنان اليوم بأبنائه اليتامى والثكالى من شبابهم الذي حُرموا منه، يوم قرّر بعض المتحصنين في «البنكر» بأن يصدروا أوامرهم من بنات شفاههم، ليرسلوهم إلى القتل والموت دفاعاً عن أساطير ما هي إلّا بنات أفكار تسعى للسيطرة، تقودها شهوة السلطة. فمن يغتر بالدنيا، فقد جرّب غير الملبس هذا اللباس ولم يجنِ إلّا العذاب والفقر وعذاب الضمير، فليس للشرّ طريق للخير، حتى وإن كان الخير مقصده، والحرب هي السبيل إلى الموت وليست وسيلة لإحلال السعادة، على رغم من أنّ فقدان السعادة قد يهون الموت غرقًا مثلًا كما حدث منذ أيام في رحلة الموت البحرية، أملًا في السعادة في الحياة.
لا أسعى في ما قلته إلى التفلسف، ولكن الفلسفة قد تكون الملاذ الوحيد للخروج تساميًا على حال الضيق الذي يخنقنا في واقعنا ووقيعتنا. لكننا علينا أن نعود إلى الواقع، حتى نحلّل ونبحث عن مخارج من حال الضيق الخانق والمُطبق على أنفاسنا.
عقدة الساعة هي مسألة وزارة المال وتخصيصها لطائفة من دون أخرى، كعنصر توازن مذهبي طائفي، يطالب به أولياء أمر الشيعة في لبنان، في لعبة عضّ الأصابع، ولكن ليس على إصبع الآخر الشريك والغريم في الوطن، بل على الوطن نفسه، ظنًا أنّ غيرة الآخر على البلد ستدفعه، كما دفعته سابقًا، إلى التخلّي عمّا يتمسّك به. لكن اليوم يعتقد من سقط سابقًا في لعبة عضّ الأصابع أنّه فقد كل أصابعه، لا بل أحرقها كلها في نار التنازلات.
في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، صرّح المفتي الجعفري الممتاز يومها الشيخ عبد الأمير قبلان بما يلي: «نحن مارد خرج من القمقم ولن نعود إليه»، وفي يومها، وأنا اليساري الذي كان يتبنّى مشروعية مطالبة أهل الجنوب والبقاع والهرمل برفع الظلم، بالعزم ذاته الذي دفعني الى رفع مظلومية بقية الأطراف المهملة في الوطن، توجست نوعاً من الخشية على تضييع ما هو حق وطني وانساني في دهاليز مذهبية. كانت أيام الأحلام اليسارية، التي كان شيعة لبنان أبطالها الميامين في النضال والتضحية لحقوق المحرومين في لبنان، من مزارعي التبغ في الجنوب إلى الرازحين تحت نير الإقطاع المقنّع في الشمال. كان ذلك إلى أن سقط أبطال هذا النضال، مثل مهدي عامل، ضحايا للأسطورة التي تلبّست بعباءة الحرمان لتجعل من أبطال الملاحم المطلبية الوطنية الإنسانية الجامعة، مجرد ضحايا لمشروع أسطورة مذهبية ما زالت تحفر في صدور الناس، من خلال ما هو غامض ومبهم في تاريخ يُسأل عنه أصحابه يومها، ولا يمكن أن يكون سبباً للموت أو القتل بعد قرون طويلة، تداخلت فيها التواريخ والفرضيات والاجتهادات الدينية والفقهية والسياسية والاجتماعية التي ضيّعت الجوهر وبقي منها فقط المظاهر القاتلة.
الحاضر والمستقبل لا يمكن فصلهما عن الماضي، فحيّز البشر هو الماضي والحاضر والمستقبل معاً. لكن المهم أن نعود إلى الجوهر، وجوهر البشر هو في سعيهم للاستقرار حتى في عزّ النزاع. واليوم نتواجه مع إمكانية الزوال العدمي كوطن، وقد يكون البعض يسعى إلى ذاك الزوال، مع أنّ البدائل لا تزال غامضة، وقد لا تحصل من دون دروب جلجلة بالغة القسوة يمكننا تجنّبها من خلال الحوار والتفاهم، بدل اللجوء إلى فتح أبواب الجحيم والتهديد بفائض القوة في العضّ على الأصبع في وقت الحشرة هذا.
مع أنني أعتقد أنّ دستور «الطائف» قد يكون أفضل ما يمكن أن نستند إليه للحفاظ على وحدة بلد يصعب تقسيمه، لكن الدستور نصٌ وضعه بشر في لحظة من الزمن كان لها أسبابها وضروراتها. ولكن الضرورة الأكبر كانت يومها إنهاء ملف الحرب الطويلة. واليوم علينا أن نعترف أنّ تلك الحرب استمرت، وإن بأشكال أخرى، وما اغتيال الزعماء والقادة والغزوات في شوارع العاصمة بمختلف أشكالها، إلّا نوع من الحرب الأهلية التي يستفيد طرف واحد من تفوقه فيها، مستنداً إلى القدرة على عضّ الأصابع، وضعف الآخرين. هذا لا يعني أنني لا أتفهّم المطالب المطروحة اليوم على المستوى المذهبي، وقد يكون ما يحق أكثر من ذلك. لكن الأمر يجب أن يكون على البارد، ومن خلال تفاهم وطني توضع فيه كل الأمور على الطاولة بلا مواربة. فمسألة السلاح المرتبط بإيران هي أولها، وقضية الفيدرالية المتلبسة بمشروع اللامركزية الموسعة ثانيها، ولمَ لا تُطرح مسائل أكثر جدّية، وهي هل المذاهب والطوائف قادرة على العودة الى وطن جامع أم لا؟ فإن كانت المشاريع المذهبية والطائفية لا تتناسب، أو لا تطيق التعددية، فلِمَ لا نطرح بدائل غير تعددية بشكل صريح بدلاً من العضّ على الأصابع؟ وعندها فمن يختار أن يستمر وطنه الصغير في كونه منصّة صواريخ فهو خياره الذي لا يجبر الآخرين على تحمّله معه. ومن يريد أن يستحصل على الشهادة من المدرسة أو الجامعة لا يكون مجبراً على الشهادة في الموت من أجل موضوع لا يعني له شيئاً. ومن يريد أن يبني للمستقبل في مشروع اقتصادي أو مالي، لا يُجبر على أن ينكسر ويفتقر، لأنّ آخرين يفضّلون الكرامة على الاستقرار. يعني في اختصار، إنّ التعددية تعني التسويات، والتسويات لا تصمد إلاّ إذا كانت النتيجة مقبولة لدى كل أطرافها. وبدلاً من الذهاب إلى مزيد من الموت والانهيار، في انتظار كارثة مرفأ جديدة أو عبّارة تغرق بركابها في موسم شتاء آتٍ، علينا الاستفادة من النافذة الفرنسية بلا مضاربة. ومن بعدها، فلنطرح ما أمكن في المؤتمر الوطني، أو حتى في مجلس النواب، بدلاً من الاستمرار في عضّ الأصابع. فلو فرضنا مثلاً أنّ الثنائي الشيعي عيّن وزراءه في الحكومة المقترحة، فهذا يعني حكماً أنّ الأحادي المسيحي، أي جبران باسيل، سيعيّن على الأقل خمسة وزراء من السبعة، وبالتالي سيحصل على الثلث المعطل حكماً، وبالتالي نعود إلى التعطيل. وهذا يعني ضرب كل مبادرة مطروحة اليوم لوقف الانهيار في انتظار الفرج.