مع نهاية القرن التاسع عشر بدأ مفهوم فلسفي جديد حول العمق يأخذ مكانه، وهو تسطيح العمق. هذا نبع مِن رفض لكل ما هو غير ظاهر. وكانت بالحقيقة عمليّة تحرير العالم بأكمله مِن كل ما هو وراء هذا العالم، قائلين إنّها محاولة إلغاء كلّ القيود التي تدين عالمنا.
وابتداءً مِن الفيلسوف الألماني "نيتشه Nietzsche" (١٨٤٤-١٩٠٠م) بدأ الفلاسفة يتكلّمون على قيمة ما هو ظاهر، وأن ما قد يبدو سطحيًّا surface ما هو إلّا عمقٌ profondeur بحد نفسه، ولا وجود لنظرة ثنائيّة في الوجود Une vision dualiste -سطحي وعميق- بل حقيقة كاملة واحدة في كل ما نراه Une vision moniste.
قبل ذلك بسنوات وتحديدًا مع الفيلسوف "كانت kant" (١٧٢٤-١٨٠٤م) كان الكلام مختلفًا، بحيث كان للعمق كيانٌ وللظاهر كيان، مع الاعتراف أن جوهر العمق غامضٌ ولا يمكن للمرء إدراكه.
هذان الوجهان الفلسفيّان بالنسبة للمسيحيّة يكتملان بالمسيح، الإله المتأنّس، الذي جمع بشخصه الظاهر والعمق، الطبيعة البشريّة والطبيعة الإلهيّة، ودعانا إلى أن نذهب معه إلى العمق ولا نكتفي بما هو ظاهر، ولا نحدد الحقيقة بما نراه فقط أو بما يحدّه عقلنا المخلوق، إذ الإنسان بطبيعته يرفض ما يجهل، وإن لم يستطع إدراكه، إمّا يلغيه أو يسطّحه أو يتجاهله. مِن هنا علينا أن ننتبه لأمر مهم جدًا، وهو، الخالق يستوعب المخلوق وليس العكس.
ليس الذهاب إلى العمق مع المسيح اكتشافًا فحسب بل تحرّرٌ. لأنّه بقدر اقترابنا مِن المسيح، نمتلئ مِن روحه القدّوس ونتحرّر، لأن "حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ"(٢ كو ١٧:٣).
فهذه الآية تعكس ما اعتقده البعض بأن العمق يكبّل الظاهر، إذ أنّه يحرّر الظاهر ويعطيه قيمته الحقيقيّة.
نقرأ في إنجيل هذا الأحد الربّ يسوع المسيح يطلب مِن بطرس الرسول أن يتقدّم إلى العمق ليلقي شباكه ويصطاد.
جواب بطرس جمع بين خبرته الظاهرة، أي بالنسبة إليه ما هو مدرك، الشيء السطحي، وبين ما هو أبعد مِن ذلك، فقال: «يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا. وَلكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ»(لوقا ٥:٥).
أي، أنا مستعد أن أذهب معك إلى أبعد ممّا أنا أعرفه، إلى العمق.
هذا الصيّاد البسيط حلّ معضلة فلسفيّة وجوديّة كبيرة وعميقة جدًا وجوهريّة. فبطبيعتنا البشريّة المحدودة نحن نقف عند حدود الأشياء المنظورة لنا، ولكن إن غصنا في أعماق ذواتنا لاكتشفنا العمق الحقيقي، مِن هنا قال لنا الربّ: "مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ" (لوقا ٢١:١٧)، أي في عمق ذواتنا نكتشف الله إن ذهبنا إلى العمق.
بطرس، في المرحلة الأولى، قَبِلَ أن يعبر مع يسوع مِن الظاهر إلى العمق. وفي المرحلة الثانية، بدأ يجني الثمار.
هناك قول فلسفي مفاده "عندما ينزل الدلو إلى عمق البئر لا يصعد فارغًا". بطرس ومن معهُ أصابوا مِن السمك شيئًا كثيرًا حتّى تخرّقت شبكتهم. فأشاروا إلى شركائهم في السفينة الأخرى أن يأتوا ويعاونوهم، فأتَوا وملأوا السفينتَين حتّى كادتا تغرقان.
وهنا تأتي المرحلة الثالثة: التحرّر. أي أمام فيض الله وعطاياه ومحبّته اللامحدودة شعر بطرس بمحدوديّته، عندها خرّ عند ركبتي يسوع قائلاً: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!". لكن يسوع أشار إلى بطرس بالولادة الجديدة: لا تخف فإنّك مِن الانَ تكون صائداً للناس. وهذا مغزاه لا تخف من العمق الذي اكتشفته فقد حرّرك، وأنت مدعو إلى أن تجلب الآخرين إليه.
ولكن، إذا رجعنا قليلًا إلى الوراء، لأدركنا أن العبور إلى العمق لا يتم إلّا بالصليب لأنّه عبور قيامي. فبطرس قبل عبوره مع يسوع تعب كلّ الليل ولم يصِبْ شيئًا.
وهذا أيضًا ما حصل مع الشعب العبراني عندما دخل عمق البريّة. عطش وخاف، عندها كلّم موسى الربّ، فأشار الله إليه أن يضرب صخرة ليشربوا منها. المياه التي خرجت مِن الصخرة وروت الشعب كانت رمزًا لجنب المسيح الذي طُعِنَ وخرج منه دم وماء وروى الكنيسة برّمتها.
فكل مرء يكتفي بالأمور السطحيّة ويرفض العمق أو يخافه أو يجهله، سيدرك، إذا اكتشف هذا العمق، أن حياته يصبح لها معنى، ومِن دونه فراغ ما بعده فراغ.
وقد عبّر الآباء القدّيسون عن عبورهم إلى العمق بأنّهم دخلوا في سكينة وصمت، فكان قول القدّيس اسحق السرياني الشهير: الصمت لغة الدهر الآتي. وهو صمت الأهواء والاضطراب والأمور المعقدّة والثقيلة والمشتتة عن سلام الله.
هذا الصمت الذي طالما تكلّم عليه الفلاسفة ولم يجده إلّا من بحث عنه في المسيح. وهذا ما جعل نيتشه يتحسّر ويكتب في مؤلّفه الشهير "أُفُولُ الأصنام Crépuscule des idoles": عالم الحقيقة أبطلناه. وأي عالم بقي لنا؟ عالم الأمور الظاهرة؟ ربّما. وقد سبقه في هذا التحسّر الموسيقار الألماني Richard Wagner في معزوفته أُفُولُ الآلهة Crépuscule des dieux.
ألا تخطيّنا هذا التحسّر وعبرنا مع الربّ إلى عمق جوهر حياتنا كي لا نموت جافّين على سطح الأمور الدهريّة والفانية.