اشاعات واقاويل كثيرة تدور حول المبادرة الفرنسية، بعضها يتوقع لها النجاح والبعض الآخر يتوقع لها الفشل، وذلك في ضوء المفاوضات الصعبة الدائرة بين المعنيين حول التشكيلة الوزارية لـ «حكومة المَهمّة»، حسبما يسمّيها الفرنسيون، والتي يفترض ان لا تتأخّر ولادتها عن نهاية الشهر الجاري، لارتباطها بالمؤتمر الدولي لدعم لبنان، الذي يحضره الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون منتصف الشهر المقبل.
بعض السياسيين المتشائمين إزاء مصير المبادرة الفرنسية، يستندون الى اعتقاد لديهم، انّ الولايات المتحدة الاميركية لا تريد لفرنسا نجاحاً في لبنان، لاعتبارات تتعلّق بالدور الاميركي الطاغي على اجواء المنطقة بأزماتها المتنوعة.
لكن ديبلوماسيين عالمين بالسياستين الاميركية والاوروبية في لبنان والمنطقة، يؤكّدون انّه رغم بعض التباين بين باريس وواشنطن في بعض النواحي حيال طريقة التعاطي مع الوضع اللبناني، فإنّهما تتناغمان لبنانياً من خلال المبادرة الفرنسية. فالفرنسيون العاملون على اختراق حائط الازمة اللبنانية المسدود، يتكلّون على «سلاح إحتياطي» للنجاح في مهمتهم، وهو سلاح العقوبات الاميركية، الذي يمكن واشنطن ان تستخدمه، لحظة شعورهم انّ مبادرتهم ستتعثر، ودفعة العقوبات الاخيرة التي اعلنتها الادارة الاميركية متوعدة بمزيد منها تشكّل مثالاً. والدليل البارز على التناغم الفرنسي ـ الاميركي، هو مبادرة ماكرون بعد عودته من زيارته الاولى للبنان في 6 آب المنصرم، الى الاتصال بالرئيس الاميركي دونالد ترامب، طالباً منه المشاركة في اجتماع دولي عن بُعد (في زمن كورونا) رعاه في باريس، وخُصّص للبحث في مساعدة لبنان على معالجة آثار انفجار مرفأ بيروت والدمار الذي الحقه بالعاصمة اللبنانية.
فالفرنسيون، حسب احد الديبلوماسيين، يستندون في العمل على تنفيذ مبادرتهم اللبنانية الى «مدفعية خلفية» لدعمهم عند الضرورة، وهذه المدفعية هي سلاح العقوبات الاميركية، وقد جرّبوه في الآونة الاخيرة.
على انّ الخلاف «الوحيد والصوري الاكثر مما هو حقيقي» بين باريس وواشنطن، حسب هذا الديبلوماسي، «هو انّ الاميركيين يطلبون من باريس ان لا تكون حكومة مصطفى أديب نسخة عن حكومة الرئيس حسان دياب، التي يعتبرون انّ «حزب الله» «يهيمن» على قرارها. ولكنهم في المقابل، يوصون الفرنسيين بأن يتمّ التعامل مع الحزب بهدوء، حيث انّهم لا ينكرون وجوده وحجمه ونفوذه في الحياة السياسية اللبنانية، على رغم من أنّهم يصنّفونه «منظمة ارهابية»، بدليل ما قاله امس الاول مساعد وزير الخارجية الاميركي للشؤون السياسية ديفيد هيل، من انّ واشنطن حاضرة لمساعدة لبنان في حال تألفت حكومة تتولّى اجراء الاصلاحات المطلوبة بعيداً من أي معوقات، من دون ان يشير الى مشاركة «حزب الله» فيها من عدمها في هذا الصدد. ليتحدث في فقرة اخرى من كلامه، عن انّ بلاده ستعاقب كل من يتعاون مع الحزب. فالاميركيون، يضيف الديبلوماسي، مقتنعون انّه لا يمكن تأليف حكومة لبنانية لا يشارك فيها «حزب الله» او يتمّ استبعاده عنها، لأنّه من المكونات السياسية اللبنانية الاساسية التي لا يمكن تجاهلها على رغم معاداتهم له.
ولكن مع ذلك، فإنّ الاميركيين، يتابع الديبلوماسي، سيستمرون في سياسة فرض العقوبات على ايران في خلال الاسابيع الستة المقبلة، الفاصلة عن موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية المقرّرة في 3 تشرين الثاني المقبل. وهم سيكتفون بهذه العقوبات، طامحين منها الى جذب ايران الى طاولة المفاوضات، لتوظيف المشهد في دعم الحملة الانتخابية لترامب الذي يبدو انّ «وضعه غير جيد»، حسب الديبلوماسي نفسه، ويخشى من الفشل في السباق امام منافسه الديموقراطي جو بايدن.
والملاحظ، انّ الاميركيين يصعّدون الضغوط هذه الايام على طهران، الى درجة انّهم يتخذون خطوات غير قانونية على الصعيد الدولي، ومنها التهديد بعدم التعامل مع اي دولة تتعامل مع ايران، التي تمكنت حتى الآن من الصمود في وجه الضغوط والعقوبات الاميركية المتنوعة، وتحديداً منذ 6 اشهر الى الآن، حيث كان هناك رهان على سقوطها اقتصادياً، ليتبين انّ الايراني «يستطيع ان يعيش على الخشبة» ولا يستسلم في مواجهة الضغوط الاقتصادية عليه، وهو الآن ينتظر ما سينجم عن المعركة الرئاسية الاميركية ليبنى على الشيء مقتضاه، سواء فاز ترامب او منافسه بايدن، الذي كان من مهندسي الاتفاق النووي مع ايران.
ويبدو، حسب الديبلوماسي نفسه، انّ سياسة ترامب القائمة على كسر الخصم وافقاده كل اوراق القوة ومن ثم جذبه الى طاولة المفاوضات والاتفاقات، لم تنجح مع ايران حتى الآن، مثلما لم تنجح سابقاً مع كوريا الشمالية وغيرها. ولكنه مع ذلك ما زال يحاول مع طهران حتى الآن، علّه يأتي بها الى المفاوضات ولو في ربع الساعة الاخير من موعد الانتخابات.
وفي سياق متصل، يقول الديبلوماسي ايّاه، انّ العلاقة الايجابية السائدة بين باريس وطهران «تفيد المبادرة الفرنسية لحلّ الازمة اللبنانية، ولكنها ليست الاساس خلافاً لاعتقاد كثيرين، فهي لها تأثيرها على المستوى الدولي الكبير، كذلك على مستوى الانتخابات الاميركية. فهذه السنة هي سنة انتخابية بامتياز اميركياً، وتفرض نفسها على الواقع الدولي بكل ازماته، باستثناء لبنان ذي الواقع المختلف. فالاميركيون طلبوا من الفرنسيين ان يعملوا على حلّ الازمة اللبنانية انطلاقاً من تقاطع بين الطرفين، على انّ انهيار لبنان وعودته الى الحرب الاهلية ليسا في مصلحة اي منهما ولا في مصلحة المجتمع الدولي قاطبة. فهناك اكثر من مليوني لاجئ ونازح من الفلسطينيين والسوريين فيه، وكذلك هناك تحرّكات لمجموعات «داعشية» في مناطقه الشمالية، وفي العراق، وان جرّ اسرائيل الى حرب في هذه المرحلة امر لن يكون في مصلحة ترامب الانتخابية، في الوقت الذي يسعى وبنيامين نتنياهو الى جذب دولتين عربيتين جديدتين، بعد الامارات والبحرين، الى التطبيع مع اسرائيل. ولذلك، فإنّ الفرنسيين والاميركيين مقتنعون بأنّ انهيار لبنان اذا حصل سيكون ضربة كبرى لسياسات فرنسا واوروبا والولايات المتحدة الاميركية في المنطقة والعالم. من هذا المنطلق، فإنّ الجميع متفقون على الّا يقع لبنان في الفوضى، وهم يتعاونون على هذا الامر انطلاقاً من المبادرة الفرنسية، ولكل منهم اسبابه ومصالحه.
وفي ضوء هذه المعطيات، يؤكّد هذا الديبلوماسي، «انّ مبادرة ماكرون لن تفشل، ومن الصعب ان تفشل، رغم انّ البعض في الداخل يعمل على إحباطها. فغالبية القوى السياسية ستدعمها، وحتى أنّ طهران تدعم هذه المبادرة وتريد من الجميع ان يقفوا الى جانب فرنسا ذات الموقع الاوروبي والدولي المؤثر، حيث تكاد تكون الدولة الوحيدة التي تتفهم مواقفهم والوضع في لبنان والمنطقة،. بل أنّ من مصلحة اللاعبين الاساسيين في لبنان والخارج، ان تنجح مبادرة ماكرون، وما يهمّ الاميركيون هنا فقط، هو ان لا تأتي «حكومة المَهمّة» على شاكلة «حكومة مواجهة التحدّيات، وهذا يكفيهم». يختم الديبلوماسي كلامه عند هذا الحد.