لا شكّ أن الخطّة التي رُسمت لزعزعة الاستقرار بلبنان، والتي خرجت الى العلن في 17 تشرين الأول الماضي، كانت مُحكمة وتركزت على انطلاق الإحتجاجات في الشارع وفي نفس الوقت تحويل الأموال الى الخارج (1) فيكون الهدف مزدوجاً ضرب الاستقرار الأمني، والدفع نحو الإنهيار المالي.
هذا في الشكل أما في المضمون فإن ما كان يُرسم للبنان ليس وليد الأشهر الماضية بل المخطّط أبعد من ذلك خصوصاً لناحية التحاويل المالية التي جرى الحديث أنها "بدأت في العام 2017 ولكن ليس بشكل كبير وخرجت الى العلن في العام 2019 بعد الاحتجاجات في الشارع نظراً لازدياد حجم التحاويل".
تحويلات ما بعد الاحتجاجات!
ما بات معلوماً اليوم أن حجم الأموال بلغ مليارات الدولارات والى بلدان مختلفة في العالم، والرقم الحقيقي للتحاويل هو "كقصّة ابريق الزيت" بين هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان والنيابة العامة التمييزية، وعندما تسأل لا تجد الجواب بل تسمع بمجموعة أرقام، واللافت ما ذكرته صحيفة Bazonline (2)الالمانية التي أشارت الى أن "هناك ما يقارب 3.6 مليار دولار "للبنانيين" في الحسابات السويسرية وتم تحويل ما يقارب 500 مليون دولار بين الربعين الثالث والرابع من العام 2019 و900 مليون دولار إضافية بين الربع الرابع من العام 2019 وأيار 2020".
وأشارت الصحيفة الى أن الحكومة اللبنانية تقدمت بطلب رسمي للحصول على مساعدة قانونية في كانون الثاني لتوضيح مكان وجود الأموال، وأكد متحدث بإسم مكتب العدل الاتحادي، بحسب الصحيفة، أنه تم التحقّق من الطلب وأن هناك حاجة الى مزيد من المعلومات... فماذا فعل القضاء اللبناني في موضوع الاموال المهرّبة الى الخارج وسويسرا تحديداً؟!
ما بين القضاء وهيئة التحقيق
بداية يشرح المحامي التمييزي القاضي صبوح سليمان أن "هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان هي التي تدقق في حسابات الأشخاص، وعندما تشتبه بشخص ترفع السرية المصرفية عن حسابه ولكن ذلك يجب أن يتلازم مع فتح تحقيق قضائي في جريمة أصلية من بين الجرائم الـ21 المنصوص عليها بالمادة الاولى من قانون 44 لمكافحة الارهاب وتبييض الاموال (3) "، مشيراً الى أن "القضاء يقوم بالتحقيق اللازم وإذا تبيّن أن الشخص ارتكب واحدة من الجرائم الـ21 المنصوص عليها في القانون 44 يرسل الى هيئة التحقيق الخاصة وهي ترفع السرية المصرفية عن حساباته بالكامل وتقوم بتجميد تلك الحسابات".
يشير القاضي سليمان لـ"النشرة" الى اننا ارسلنا عدّة كتب الى هيئة التحقيق الخاصة طلبنا فيها أن تفيدنا عن الاموال التي حوّلت الى سويسرا، وفي 24 شباط 2020 ردّت هيئة التحقيق على كتابنا الذي ارسلناه في 30/12/2019 أجابتنا فيه أن مجموع التحاويل التي حوّلت الى الخارج في الفترة ما بين 17/10/2019 ولغاية 31/12/2019 هي 565 مليون دولار منهم مبلغ من أصل المبلغ يعود الى أشخاص في لبنان معرضين سياسياً أو PEP".
هيئة التحقيق لم تتجاوب!
"في 19/03/2020 ارسلنا كتاباً آخر الى هيئة التحقيق الخاصة بمصرف لبنان نطلب فيها التفصيل بأسماء أصحاب التحويلات المذكورة وافادتنا عما إذا كانت الأموال المحوّلة مصدرها مشبوه أم لا". يقول القاضي سليمان، ليعود ويلفت الى أن "الجواب على لسان هيئة التحقيق جاءنا بتاريخ 08/04/2020 ويؤكد أن كافة المصارف التي نفذت التحاويل الى الخارج بين 17/10/2019 و31/12/ 2020 أفادت بعدم وجود أي شبهة بمصدر الأموال وبالتالي لم تزودنا بالاسماء".
سويسرا: "حققوا ثم عودوا الينا"!
يعود القاضي سليمان الى موضوع التحاويل الى سويسرا، ويلفت الى أننا "ارسلنا الى سويسرا، مرة واحدة، بتاريخ 30/12/2019 طلب مساعدة قضائية عرضنا فيها أنه تكوّنت لدينا معلومات ناجمة عن تقرير صحافي أدلى فيه مروان اسكندر يقول فيه انه اتصل بمصدر بسويسرا وتأكد له أنه تحول الى هناك مبالغ بمليارات الدولارات"، مشيرا الى أننا "طلبنا من الدولة السويسرية أن تفيدنا عن حقيقة هذا الامر وأسماء الاشخاص الذين حوّلوا الى الخارج واصحاب الحسابات".
لا تحقيق في لبنان
يلفت القاضي سليمان الى أن "سويسرا سألت إذا كان هناك في لبنان من تحقيق جار باحدى الجرائم الـ21، لأنه وفي حال كان ذلك حاصلاً فهذا معناه أن الاموال التي وصلت الى سويسرا هي أموال غير مشروعة وينطبق عليها قانون مكافحة تبييض الاموال، بما معناه أيضا أنه يجب أن يكون هناك تحقيق في لبنان بجريمة معيّنة لتعتبر سويسرا أن هناك جريمة وتحقق بحسابات وصلت اليها"، وبالمختصر أكثر بحسب القاضي سليمان "سويسرا قالت لنا "حققوا أنتم أولاً ومن ثمّ عودوا الينا"، وفي لبنان ليس لدينا تحقيق مفتوح بجريمة أصلية ولا نحقق بفساد ولم تردنا أسماء من هيئة التحقيق الخاصة بمصرف لبنان فكيف نحقق كقضاء؟".
"في 13/07/ 2020 طلبنا من هيئة التحقيق الخاصة عدد الحسابات ومن منها يفوق المليون دولار وتكليف المصارف التحقيق مجددا". هذا ما يؤكده القاضي سليمان، مشيرا الى أن "جواب هيئة التحقيق الخاصة كان أنها طلبت من المصارف ذلك وحتى الان لم يردنا أي جواب".
لا خطوات جديّة لا ستعادة الاموال
إذاً بعد كل هذا الكلام، أصبح واضحا أن تصريح رئيس الجمهورية ميشال عون الذي أدلى به في الـ21 من أيلول 2020 حينما تطرق الى موضوع الأموال المحوّلة الى الخارج لم يكن عن عبث، حينما قال: "أتينا نطالب بالأموال المنقولة الى الخارج في الفترة التي حصلت فيها الأحداث، فلم يتحرك القضاء والنيابة العامة التمييزية لم تطلب"، لذلك هو يدرك فعلياً أن لا خطوات "جديّة" لاستعادة تلك الاموال.
نموذج أوزبكستان
الواضح بحسب كلّ ما تطرقنا اليه أن لا خطوات جديّة على طريق إستعادة الاموال المهربّة الى الخارج بينما هناك نماذج في العالم مشابهة للبنان وتحديدا اوزبكستان استعادت أموالها من سويسرا. ففي 9 أيلول أعلنت الحكومة السويسرية أنها وقعت اتفاقا مع أوزبكستان يمهد الطريق لاستعادة الاصول التي تبلغ قيمتها الملايين من المصادرة من الابنة الكبرى للرئيس الاوزبكي الراحل اسلام كريموف غولنارا كريموفا (4).
فعلتها أوزبكستان وخطت خطوة على طريق استرداد الاموال المهربة الى السويسرا لحسابات كاريموفا، فما الذي يمنع الدولة اللبنانية أن تحذو حذو اوزبكستان وتستعيد الاموال المهربة الى سويسرا؟، فهل هو ما أشار اليه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بمؤتمره الصحافي بالامس حينما قال و"بالفم الملآن" ما لم نسمعه من أحد: "أن البعض ممن لديهم نفوذ سياسي حاولوا إخراج الاموال الى الخارج، ما حاول السياسيون القيام به هو الحفاظ على نفس الأشخاص لكي يتمكنوا من إخراج أموالهم من لبنان ووضعهم في مكان محمي في الخارج وهذا ما حصل"، كاشفا أن "هذا ما يحاولون الاستمرار به!!" هل هذا يعني "طارت الاموال"!!... اليوم على هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان والنيابة العامة التمييزية مسؤولية استعادة تلك الأموال!
(1) هناك تحويلات مالية للخارج تحصل من أجل المشتريات اي التجارة الاعتيادية وهي مشروعة، كما هناك تحويلات أخرى غير مشروعة جزء منها تهريب أموال وجزء آخر يحصل تحت عنوان التجارة ولكن يكون فعليا تهريب للأموال.
(3) للاطلاع على قانون مكافحة الارهاب وتبييض الاموال اضغط على الرابط التالي:
(4) تشير الحكومة السويسرية الى ان "الاتفاقية تحدد المبادئ والمراحل المتعلقة باعادة الممتلكات"، لافتة الى أن "الاتفاقية تتعلق ايضا بمبلغ 131 مليون دولار تمت مصادرتهم بشكل نهائي في احدى الاجراءات الجنائية المتعلقة بكاريموفا، كذلك جمدت الحكومة السويسرية الاصول التي تزيد قيمتها عن 715 مليون دولار وتخضع للاجراءات الجنائية".
ووفقا للحكومة السويسرية فإن "اطار العمل يستند الى مجموعة من المبادئ وهي الشفافية والمساءلة وعملية الاسترداد، استخدام الاصول لتحسين الظروف المعيشية لشعب اوزبكستان، استثمار الاموال في المشاريع التي تدعم التنمية المستدامة، إنشاء آلية للمراقبة، والمشاركة المحتملة للجهات الفاعلة غير الحكومية".