يُقدم الشعب الفلسطيني خيرة أبنائه قرابين في مسيرته النضالية ضد المُحتل الإسرائيلي، شهداء وجرحى وأسرى ومُبعدين ولاجئين.
مسيرة تتنوع في حقول الميادين شتى، وتتطور الأساليب والوسائل، مُواكبة لمُتطلبات كل مرحلة.
نضال جماهيري وعمل فدائي، ومعارك دبلوماسية وحقوقية، وإعلامية وثقافية.
صمود وتصدٍّ وإفشال للمُخططات والمُؤامرات المُتواصلة التي تستهدف شطب القضية الفلسطينية.
لم يستسلم شعب الجبارين سابقاً لمشاريع التصفية، وأفشلها، وهو اليوم يتصدى لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب "صفقة القرن" الهادفة إلى إنهاء القضية الفلسطينية.
على الرغم من حجم المؤامرة والضغوطات، فالشعب الفلسطيني يعيش ثورة مُتواصلة، تصدياً لمشاريع الاحتلال الإسرائيلي، بسرقة الأراضي، والاستيطان والتهويد، والاعتداء على المُقدسات الإسلامية والمسيحية، والأماكن التراثية والأثرية، وقرصنة الأموال.
يعيش ظروفاً ومُمارسات تتشابه كثيراً مع ما عاشه في "الانتفاضة الأولى" - "انتفاضة الحجارة" في العام 1987، و"الانتفاضة الثانية" - "انتفاضة الأقصى" في العام 2000.
شهدت "انتفاضة الأقصى" التي اندلعت إثر تدنيس وزير حكومة الاحتلال ارييل شارون باحات المسجد الأقصى في القدس المُحلتة (28 أيلول/سبتمبر 2000)، نقطة تحول هامة في مشهد حمل الكثير من الدلالات والمعاني، باستشهاد الفتى محمّد جمال الدرة (12 عاماً) وهو في حضن والده جمال (30 منه)، ليكون شاهداً على وحشية الاحتلال بالقتل العمد وبدمٍ بارد، ولأبٍ حاول افتداء ابنه، لكنه استشهد بين يديه.
لم يكتفِ الاحتلال بذلك، فحاول تشويه الحقيقة التي قادها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، زاعماً بأن الفلسطينيين هم من أطلقوا النار على الأب والابن، ثم أن القتلى يهود، وبعدها بأن محمّد الدرة، لم يمت بل ما زال حياً.
جرائم مُتواصلة
لم تكن جريمة اغتيال محمّد الدرة، إلا نموذجاً عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي المُتواصلة ضد أبناء الشعب الفلسطيني، بينما تمكنت عدسات الكاميرا من رصده وتصويره، والكثير بقي بعيداً عن التصوير، وفي طليعة ذلك، جريمة اغتيال الفتى محمّد حسين أبو خضير "شهيد فجر رمضان"، يوم الأربعاء في 2 تموز/يوليو 2014 (في شهر رمضان المُبارك)، بخطفه من قبل 3 مُستوطنين أثناء توجهه لأداء صلاة الفجر في مسجد بلدته شعفاط -
شمالي القدس المحلتة، واجباره على شرب البنزين قبل اضرام النار به في حرش بلدة دير ياسين، الشاهدة على مجازر عصابات الصهاينة في العام 1948.
أبصر محمد جمال الدرّة النور، يوم الخميس في 18 شباط/فبراير 1988، خلال "إنتفاضة الحجارة"، في مُخيم البريج للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزّة، ضمن أسرة مُؤلّفة من 9 أفراد (الوالد جمال، الأم أمال، و7 أولاد: 5 صبيان وبنتان).
رضع من والدته أمال، حليب النضال والفداء والتضحية من أجل فلسطين، وكان يتابع تعليمه في الصف الخامس الابتدائي في "مدرسة ذكور البريج الابتدائية".
يوم السبت في 28 أيلول/سبتمبر 2000، اندلعت "إنتفاضة الأقصى"، التي تُوِّجت بمُواجهات بطولية لبواسل الشعب الفلسطيني، الذين تصدوا لجنود الاحتلال، وأغلقوا الطرقات في وجوههم.
بعد يومين، وتحديداً يوم الإثنين (30 منه)، ارتفعت وتيرة المُواجهات، فلم يستطع الأب جمال التوجّه إلى مكان عمله، كما لم يتمكّن إبنه محمد من الذهاب إلى المدرسة كالمُعتاد، فقرّر الوالد الذهاب إلى مزاد للسيارات، وإصطحب معه نجله محمد لشراء سيارة من نوع جيب.
بعد زيارة المزاد، إستقل جمال وإبنه محمد سيارة للعودة إلى المنزل، لكن ما إن وصلا إلى مُفترق (نتساريم) - عند تقاطع شارع صلاح الدين، المُؤدّي إلى مدينة غزّة، لم يستطيعا العبور بسبب غزارة الرصاص الذي كان يُطلقه جنود الاحتلال الإسرائيلي باتجاه الفلسطينيين الغاضبين.
اغتيال بدمٍ بارد
ترجّل جمال ونجله محمد من السيارة، واحتميا خلف برميل إسمنتي، في ذلك الحين حضر عدد من المُصوّرين، والتقطوا مشاهد للابن ووالده الذي كان يحتضنه بقوّة، خوفاً من أنْ تطاله رصاصات الاحتلال.
لحظات مرّت... ارتفع خلالها زخم الرصاص، وعلا معها نحيب محمد، وبدا الخوف على جمال، الذي تأبّط إبنه بيد، وأخذ يُلوّح باليد الأخرى لجنود الاحتلال الذين كانوا يُواصلون إطلاق النار، إشارة لهم من أجل التوقّف، لكن دون جدوى، فأصابت محمد رصاصات عدّة، منها في بطنه، فارتمى الفتى على ساقَي أبيه قبل أنْ يستشهد، وهو يرفرف كالطير بين ذراعي والده، الذي أُصيب برصاصات عدة.
كانت عدسة المُصوّر الفلسطيني في القناة الفرنسية "فرانس 2" طلال أبو رحمة، ترصد المشهد، وتلتقط اللحظة الحاسمة التي وقعت فيها الجريمة.
إهتزّ العالم للمشهد، الذي لم يمر بشكل عابر، فالقاتل هو مُحتل غاصب، حاقد، انتهك المُقدّسات وحرمة البيوت، وكرامة الإنسان، والضحية طفل فلسطيني في عمر الورود.
ضجَّ العالم، وإنتفض أصحاب الضمائر، واحتدم الغضب في قلوب الفلسطينيين، فالتهبت نيران الانتفاضة، وتأجّجت مشاعر الشجب والإدانة ضد الاحتلال في العالم أجمع، وطالت أصداء الجريمة داخل الكيان الإسرائيلي، ما أثار الذعر لديه، فحاول إخفاءها من خلال التشكيك بصحة فيلم الجريمة.
اعترف الاحتلال بداية بمسؤوليته عن اغتيال محمد، وجرح والده جمال، لكنه تنصل في ما بعد، وأعلن لاحقاً أنّ جنوده لم يُطلقوا الرصاص باتجاههما، بل إن الشرطة الفلسطينية هي التي أطلقت النار!
ثم ادّعى بأنّ محمد الدرة حي، وهو ما زعمه نتنياهو عبر صفحته على الـ"فيسبوك" يوم الاثنين في 20 أيار/مايو 2013.
بين مُحاولات الاحتلال نفي ارتكابه الجريمة، وحرص إثبات عائلة الشهيد الدرة استشهاد ابنها، كان أيضاً هناك إصرار من المُصوّر أبو رحمة بالتأكيد على حقيقة الصورة التي التقطها.
على الرغم من الخسارة الفادحة للأسرة المنكوبة، لكنها أصرتّ على أن تُواجه الاحتلال مُجدّداً، فلملمت آلام الفراق والحزن، وأنجبت والدته أمال طفلاً جديداً، أبصر النور يوم الجمعة في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2002، أطلقت عليه اسم محمد، تخليداً لاسم شقيقه الشهيد، الذي يشبهه كثيراً، وبذلك خلّدت العائلة اسم الشهيد الرمز.
كسرت أمال عزيمة الاحتلال، فوضعت بعد ذلك 3 أطفال، هم: رقية، براءة ومحمود.
بذلك أثبتت أنّ الشعب الفلسطيني الذي إعتاد على تقديم القرابين من أجل الوطن، سيستمر في مُواجهة الاحتلال حتى تحقيق النصر.
تجسّد استشهاد محمد الدرّة، في تخليد الفلسطينيين لشهدائهم، من خلال إصرارهم على إطلاق أسمائهم على مواليدهم الجُدُد، وأيضاً في إنجاب الأطفال، ليثبتوا للاحتلال أنّ الأرحام التي أنجبت هؤلاء الشهداء لن تعجز عن إنجاب غيرهم، حتى يتحقق التحرير والنصر.
من جهته، استعاد الوالد جمال الدُرَّة في كتابي "فرسان فلسطين"، المشهد ذاته عن اللحظات الأليمة، وهو لا يمل ولا يكل من إعادة ذلك، طالما أنّ "الهدف كشف الجريمة الإسرائيلية، ونيل حقّي وحق إبني من الجُناة، وفضح الادّعاءات الإسرائيلية الزائفة بأنّ إبني الشهيد حَيٌّ يُرزق، وأنّ الجريمة التي وقعت، مرّة يقولون بأنّها بأيدي الشرطة الفلسطينية، وأخرى بأنّ الفيديو "مُفبرك"، وفي ثالثة ينفون ذلك جُملة وتفصيلاً".