شاءت الصدف ان يتفق النواب على الاجتماع لدرس واقرار بعض المشاريع المهمة، في وضع يتفق الجميع على انه استثنائي ومصيري بالنسبة الى هذا البلد وسكانه. تكرّم المجلس واجتمع فيما الحكومة مستقيلة، ورئيس الجمهورية يصارع بعض الصلاحيّات المتبقية له، ودرس عدداً من مشاريع القوانين فاتفق على بعضها واختلف على البعض الآخر. ولاننا في ظرف حرج، فكل المواضيع قد تمّت ترقيتها الى درجة المهمّة، الا اننا سنتوقف عند موضوعين استحوذا على اهتمام وسائل الاعلام والسياسيين على حد سواء: العفو العام والاثراء غير المشروع. كتب للمشروع الاول ان يسقط فيما كتب للثاني ان يبصر النور، ولكن القاسم المشترك بين الاثنين يبقى في انهما يعتبران بمثابة خطوة ناقصة اختبأ النواب فيهما تحت عباءة القضاء.
وفي ما خص العفو العام، فإنّ الكثيرين يرون فيه مصلحة طائفيّة ومذهبيّة، وآخرون يعتبرونه مساساً بالجيش وشهدائه، وغيرهم يرى فيه وجوب التخلص من مشكلة الاكتظاظ وما تحمله من مشاكل جراء انتشار وباء كورونا. الثابت ان كل هذه العوامل صحيحة وموجودة، ولكن الصحيح ايضاً ان هذا الامر لكان اسهل بكثير لو أنّ النواب يثقون بالقضاء، ولو كان الاخير يضرب بيد من حديد وبحزم دون التطلّع الى أيّ اعتبارات ثانية، فتتحدث الملفات عن نفسها دون عناء تأويلها وتفسيرها وشرحها، فيخرج من يجب ان يخرج اي المتهم بجنح لا تهدّد الامن القومي ولا تمس بكرامة الجيش وشهدائه، ويبقى من يجب ان يبقى دون ان يشمله أي عفو. ولكن، ما يحصل هو ان المتهمين باتوا "مخلوطين" ان من حيث عدم البت بملفاتهم قضائياً او من حيث التهم والاحكام، او من حيث المحسوبيات والمحاباة بعد ان تنشط الوساطات الطائفية والسياسية لتصبح السجون مجرد "مرتع" يقضي به هؤلاء اوقاتهم، الى حد قد لا يرغبون بعده في ترك السجن كي لا يصابوا بالملل او يضطروا الى التأقلم مع طبيعة الحياة العادية اليومية، ويخسروا مكانتهم ونفوذهم. المؤسف في الامر ان قانون العفو لم يمرّ في مجلس النواب ليس بسبب عدم الاتفاق على المعايير الوطنية والقضائية الواجب اتباعها، انما بسبب الخلاف على المعايير الطائفيّة وشدّ كل طرف الى ناحيته كي يبقي على شعبيته حيّة، فيما القضاء يتفرّج دون ان يصدر اي موقف ولو من باب التوصية او الاستشارة لجهة مصير غير المحكومين او الذين لم يتم درس ملفاتهم بعد، فيما من اصدرت الاحكام بحقه، يكون عليه دفع ثمن ما ارتكبه.
اما على خط الاثراء غير المشروع، فبعد البلبلة التي سادت والتي كان سببها تسريب خبر حصر المحاسبة بالموظفين دون المسؤولين، فيما تبيّن لاحقاً انّ الجميع مشمول بهذا الامر، وبعد ان كاد القانون يصل الى مصير مجهول بسبب "انتفاضة ثوّار" تيار المستقبل على صلاحيّات رئاسة الحكومة والوزراء، و"الدروس الوطنية" لرئيس مجلس النواب نبيه بري حول الوطنية والعلمانية والدولة المدنيّة، تمّ الاتفاق على تمرير المشروع بصيغة تطال الجميع. واللافت هذه المرة ايضاً انه كان يمكن تلافي هذه المشكلة لو تحرك القضاء كما يجب منذ اللحظة الاولى، وقام بدوره واحرج السلطات التنفيذية والتشريعية بطلب المحاسبة، وفق الاصول، لمرتكبين من طبقة المسؤولين والموظفين على حدّ سواء. لكن تراخي القضاء من جهة، واستهتار مجلس النواب من جهة ثانية، ادى الى اعتماد هذه الصيغة التي حظيت بموافقة نيابية، لكنها تبقى مجرد حبر على ورق ما لم ترتبط بجدّية قضائيّة واستقلاليّة في التعاطي مع الملفّات، اذ لن تنفع عندها كل القوانين اذا ما تم اللجوء لمراعاة الخواطر واسترضاء الزعماء والمسؤولين، لنعود الى المربّع الاول وكأنّ شيئاً لم يكن.
في اختصار، لا يمكن اطلاق صفة "انجاز" على ما تحقق في مجلس النواب بالامس، لانه سينضمّ الى قافلة طويلة من القوانين الموضوعة تحت خانة "مع وقف التنفيذ" القضائي.