في العام 1994 توقفت حرب أرمينيا وأذربيجان على خسارة الأخيرة لإقليم ناغورني قرة باغ ذي السكان الأرمن والأرض الآذرية، ومضت بعدها 26 عاماً والأوضاع في الإقليم وحوله شبه هادئة ومستقرة إلى حدّ يسمح بالقول إنّ صفحة النزاع على الإقليم باتت مجمّدة أو حتى شبه منتهية، بحيث لا يمكن أن تحرّكها إلا عوامل دولية ذات مؤثرات تتخطى طرفي النزاع المباشر، نقول هذا رغم أنّ أياً من الدول لم يعترف بالوضع السياسي الانفصالي لإقليم ناغورني قرة باغ الذي ارتسم بعد حرب 1994 ولم نجد أحداً يقرّ بالحكم الذاتي للأرمن في الإقليم وارتباطهم الفعلي بأرمينيا بما يظهر سلطة أرمنية قائمة على جزيرة داخل الأراضي الآذرية.
واقع لا يوجد ما يسنده بشكل قطعي ونهائي في قواعد القانون الدولي العام الذي يقدّم قاعدتين تخدم الأولى المنطق الأرميني والثانية الحجة الآذرية. ففي الأولى تتمسّك أرمينيا بقاعدة «حق الشعوب في تقرير مصيرها» وتعتبر انّ لأبناء ناغورني قرة باغ الحق بتقرير مصيرهم السياسي واختيار الموقع الذي يرتضونه او يريدون الوجود فيه، ولهذا فهم اختاروا أن يقيموا حكماً ذاتياً مرتبطاً بأمّتهم الأرمنية التي أقامت دولتها المستقلة في أرمينيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في العام 1991، والثانية تخدم مطلب أذربيجان حيث تتمسك بقاعدة السيادة على إقليم الدولة وحقها في المحافظة على وحدة أراضيها التي عمل بها الاتحاد السوفياتي أيضاً عندما كان قائماً وجعل إقليم ناغورني قرة باغ جزءاً لا يتجزأ من أراضي أذربيجان. وبالتالي نرى انّ حسم هذه القضية على أسس القانون الدولي العام أمراً ليس بالهيّن رغم بعض قرارات مجلس الأمن التي جاءت بشكل عام ملتبس مرجّحة للموقف الأذري.
وهكذا نجد أنّ الحلّ السياسي لأزمة ناغورني قرة باغ غير ممكن ما لم تتوفر عناصر ثلاثة أولها إرادة مشتركة بين أرمينيا وأذربيجان وسكان الإقليم للتسوية وفقاً لحلّ وسط لا يطيح كلياً بأحد المبادئ أعلاه، والثاني وجود وسيط مضمون وموثوق به لمساعدة الأطراف على الوصول الى هذه التسوية، والثالث وقف التدخل الخارجي لعدم تأجيج الصراع لغايات استراتيجية وأهداف خارجية أخرى.
بيد أنّ التدقيق في الواقع الراهن يقود الى الجزم بانتفاء شرط او أكثر من شروط التسوية، لا بل نجد أنّ هناك عوامل دوليّة تتولى التفجير ولا ترغب بالحلّ، ويأتي في طليعتها العامل التركي والعامل الإسرائيلي الى جانب أذربيجان ويُضاف طبعاً العين واليد الأميركية. ولهذا السبب شجّعت كلّ من تركيا و»إسرائيل» أذربيجان على تفجير الوضع والذهاب الى الحرب للانتقام لخسارة العام 1994 وإرساء واقع جيوسياسي جديد للمنطقة يخدم استراتيجية الضغط على روسيا وتطويق إيران عملاً بسياسة الضغوط القصوى الأميركية والإطاحة بالتوازن الهش القائم في العلاقات بين إيران وتركيا وانقلابه لمصلحة تركيا.
إنّ حرب أذربيجان ضدّ أرمينيا من باب اقليم ناغورني قرة باغ تعني الكثير لـ «إسرائيل» وتركيا وطبعاً أميركا، فهي من جهة أولى تنمّي العلاقة وتزيد التغلغل الإسرائيليّ في أذربيجان وتنمّي سوق السلاح الإسرائيلي (60 % من السلاح المستعمل من الجيش الأذري في الحرب هو إسرائيلي هذا بالإضافة الى عشرات المستشارين العسكريين الإسرائيليين الذين يقودون الى جانب الأتراك الأذريين الحرب في الإقليم). ومن جهة أخرى تحرج إيران التي لا تستطيع أن تكون الى جانب «إسرائيل» في أذربيجان ولا تستطيع ان تفرط بعلاقاتها بأرمينيا من جهة، وقد يُثار بوجهها العامل الديني الطائفي لكون الأذربيين بمعظمهم من الشيعة.
ولهذا رأت إيران انّ حسن الرأي يفرض وقف المواجهة بين الدولتين والدعوة الى وقف إطلاق النار والحوار بين أرمينيا وأذربيجان، لكن هذا الرأي كما يبدو حتى الآن ترفضه كل من تركيا و»إسرائيل» وأذربيجان التي تطمع بتطهير كامل الجنوب الغربي من البلاد بما فيها ناغورني قرة باغ من النفوذ الأرمني والسيطرة على عقدة جغرافية من أرض ذات أهمية استراتيجية تتصل بمرور حزمة أنابيب الغاز نحو الغرب.
اما تركيا فإنها ترى في الحرب طريقاً لتحقيق جملة اهداف عسكرية سياسية واستراتيجية واقتصادية، فهي من جهة تنتقم (او تؤدّب أرمينيا على حدّ ما يردّد الأتراك في أديباتهم السياسية) ومن جهة تملك السيطرة عبر أذربيجان على عقدة جغرافية ستمرّ فيها أنابيب الغاز الى الغرب، وكذلك تخفف من حاجاتها لإيران، لا بل تقلب المشهد وتصبح إيران اكثر حاجة لها مع سقوط النفوذ الأرمني في المنطقة لصالح تركيا و»إسرائيل»، وسيزيد ذلك من الخناق حول إيران من الشمال. ومن جهة أخرى ترى تركيا أنّ جبهة ناغورني قرة باغ ستؤمن لها مكاناً مناسباً لنقل أكثر من 5000 مسلح من سورية هي بحاجة الى إخراجهم منها في معرض تنفيذ الحلّ التسوية الذي يعمل عليه الآن لحلّ مسألة إدلب.
أما روسيا فإنّ الحرب تضعها في مأزق استراتيجيّ إذ قد لا تجد مخرجاً منه إلا وقفها والبحث عن حلّ سلمي لا يبدو ممكناً الآن او تضطر الى مواجهة تركيا جدياً سياسياً أولاً، وقد يصل الأمر الى احتكاك ميدانيّ سينعكس بشكل او بآخر على العلاقات بين الدولتين ويؤدي الى اهتزاز تعاونهما بشكل خاص في سورية، ما يشكل هدية هامة لكلّ من أميركا و»إسرائيل».
وعليه نرى أنّ مأزق ناغورني قرة باغ الذي فجّره الأتراك للحصول على مكاسب منظورة او خفية هو على قدر من التعقيد يجعل حله سياسياً او بالحسم العسكري أمراً ليس بمتناول يد أحد لأنني لا اعتقد أنّ أرمينيا وإيران وروسيا في موقع من الضعف يجعلهم يسلّمون بأهداف الخطة المعادية، كما أنّ تركيا لن تتراجع ببساطة وتترك فرصة تحقيق طموحاتها للحصول على جوائز ترضية وأوراق تعوّض الخسارات في ليبيا وسورية وأخيراً في المواجهة مع اليونان. وهكذا ستنضمّ ناغورني قرة باغ الى مناطق التوتر في غربي آسيا وآسيا الوسطى المؤجلة الحلّ ثم يحدثك البعض عن الحياد والنأي بالنفس والجزر المعزولة…!.