صحيحٌ أنّ إعلان رئيس مجلس النواب نبيه بري عن "اتفاق إطارٍ" يرسم طريق المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، كان مُتوقَّعاً، خصوصاً أنّه جاء بعد جهودٍ مُعلَنة، غير خفيّة أو مستترة، استمرّت زهاء عقدٍ كاملٍ.
ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ الإعلان، في هذا التوقيت تحديداً، تزامناً مع حملة الرئيس دونالد ترامب الانتخابيّة، وفي غمرة اتفاقات "التطبيع" العربيّة، أثار الكثير من التساؤلات، وربما الالتباسات، لا حول "مغازي" الاتفاق فحسب، ولكن حول "ثمنه" قبل ذلك.
ولعلّ ما عزّز من هذه "التكهّنات" تمثّل في ردود الفعل الأولية على الاتفاق "التاريخي"، خصوصاً من قبل الإدارة الأميركية والدائرين في فلكها، ممّن "تعمّدوا" وضعه في الخانة نفسها لاتفاقات "التطبيع" الأخيرة، ولم ينسوا التركيز على "الموافقة الضمنية" لـ"حزب الله".
فهل وقع لبنان في "فخّ" ما حذّر "الحزب" أخيراً منه، على وقع اتفاقات "التطبيع"، خصوصاً لجهة تقديم "الهدايا المجانية" للرئيس الأميركي، الذي يحاول إقناع الرأي العام الأميركي بأنه نجح في تحقيق "سوابق تاريخية" عجز عنها أسلافه؟!.
ليس "تطبيعاً"!
بعيداً عن "المبالغات" التي حفلت بها ردود الفعل "الصاخبة" على إعلان "اتفاق الإطار"، والتي قد تكون مقصودة في جانبٍ كبيرٍ منها، قد يكون من المفيد الانطلاق من "ثابتةٍ" واضحةٍ ولا لبس فيها، وفق ما يؤكّد العارفون، وهي أنّ الاتفاق المذكور جاء في سياقه الطبيعيّ والبديهيّ، وأنّه لا يمتّ إلى اتفاقات "التطبيع" التي ذاع صيتها في المنطقة أخيراً، بدفعٍ من الأميركيّين.
ولعلّ الإشارة الأكثر دلالةً على ذلك أنّ الأميركيّين أنفسهم فصلوا بين الأمرين، وإن هلّلوا للخطوة "التاريخية" التي ستؤسِّس لمسارٍ جديد يخدم "أجندتهم"، وقد بدا ذلك واضحاً في كلام مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد شنكر الذي قال صراحةً إنّ اتفاق الإطار هذا "لا يعني تطبيع العلاقات"، بل ذهب أبعد من ذلك بالتعبير عن خشيته من أن "يعمد حزب الله إلى تخريب الاتفاق بين البلدين".
وإذا كان "توقيت" الاتفاق أثار الكثير من علامات الاستفهام، فإنّ هناك من يرمي "الكرة" في ملعب الأميركيّين أيضاً، الذين سعوا إلى "استثماره" بطبيعة الحال، كما يفعلون مع معظم الملفات على طاولتهم، خصوصاً أنّ رئيس مجلس النواب أعلن أكثر من مرّة أنّ هذا الاتفاق "مُنجَز"، وهو ما كرّره في مؤتمره الصحافيّ قبل يومين، حين رفض الربط بينه وبين العقوبات الأميركية الأخيرة التي طالت معاونه السياسي النائب علي حسن خليل، باعتبار أنّ إنجاز الاتفاق "سابقٌ" لها من الأساس.
ويشدّد المتابعون على أنّ "بيت القصيد" يبقى أنّ إعلان الاتفاق جاء في سياقه الطبيعي، ومحدَّد الأهداف والغايات، فضلاً عن كونه مجرّد اتفاق مبدئيّ غير نهائيّ على رسم طريق المفاوضات، أي أنّه "يطلِق" المفاوضات ولا "ينهيها"، علماً أنّ المفاوضات ليست أمراً "استثنائياً" بين الكيانات التي ترتبط بنزاعات، وقد سبق لـ "حزب الله" نفسه أن خاض مفاوضات غير مباشرة مع العدو بعنوان "تبادل الأسرى"، ولو أنّ المقارنة قد لا تجوز هنا.
أيّ "ثمن"؟!
رغم كلّ هذا "المنطق" الذي يتسلّح به داعمو "الثنائيّ الشيعي" في "تفنيد" اتفاق الإطار، ومنع "حرفه عن بوصلته" تحقيقاً لغايات البعض، ثمّة من يصرّ على أنّ خلف إعلان هذا الاتفاق، في هذا التوقيت، "صفقة ما"، قد لا تطول الأيام قبل تكشّف معالمها.
وينطلق هذا البعض من سؤالٍ "بريء" يطرحه عددٌ من اللبنانيّين، ولو عن "لؤم" في جانبٍ منه، ويتمحور حول ما كان سيحلّ بأيّ "مُفاوِضٍ" لبنانيّ، غير رئيس مجلس النواب، لو تولّى هو إعلان ما أعلنه بري، علماً أنّ ثمّة سجالاً أصلاً حول "صلاحيّة" بري الدستوريّة في إدارة التفاوض، بعيداً عن الغايات "السياسية" المعروفة.
وفي هذا السياق، ثمّة من يعتبر أنّ "الثنائي" يدرك أنّ اتفاق الإطار هذا، ولو كان تلقائياً وطبيعياً وثمرة جهود سنوات طويلة، يشكّل "هديّة" تُمنَح للرئيس الأميركي دونالد ترامب على أعتاب حملته الانتخابية التي يسعى لخوضها على أطلال "الإنجازات التاريخية" التي يحقّقها في منطقة الشرق الأوسط تحديداً، بعد "جمودٍ" استمرّ لسنواتٍ طويلة. بيد أنّ هذا "الثنائيّ" أراد أيضاً، وفق هؤلاء، "توظيف" الاتفاق بما يخدم مصلحته، وفي توقيتٍ يبدو "مثاليّاً" أيضاً، بعدما وُضِعت "العين الدولية" عليه، على وقع تحميله مسؤولية إسقاط المبادرة الفرنسية الأخيرة.
وإذا كان "حزب الله" تعمّد "تحييد" نفسه عن الاتفاق، كما حرص الأميركيون أيضاً على "تحييده"، بنفيهم أيّ "اتصالات" بينهم وبينه، فإنّ مجرّد الحديث الواقعيّ عن "موافقة ضمنية" من جانبه على الاتفاق، "ضاعف" من الأهمية المفترضة له، مع تساؤلاتٍ حول "تشريع" مبدأ "المقاومة الدبلوماسية"، ولو أنّ البعض لم يتأخر أيضاً في رشّ "البهار الإقليمية" من خلال الحديث عن "رسالة انفتاح" خلف الاتفاق، أرادت إيران تحديداً إيصالها إلى الرئيس ترامب، من خلال "حزب الله".
أكثر ممّا يحمل؟!
حُمّل "اتفاق الإطار" أكثر ممّا يحمل. هو ليس اتفاقاً نهائياً، ولا يعبّد الطريق أمام أيّ "تطبيع" مع الإسرائيليّين، في غمرة "الاحتضان العربي" لهم. بل إنّ وظيفته لا تتخطى "تشريع" التفاوض معهم، برعايةٍ أميركيّة، حول ملفّ حسّاس بحجم ترسيم الحدود.
لكنّ ذلك ليس مفاجئاً على الأرجح. فتوقيت إعلان الاتفاق في عزّ ما تشهده المنطقة من "سوابق" على مستوى العلاقة مع إسرائيل، وعشية استحقاقٍ رئاسيّ يتعامل معه ترامب على الطريقة اللبنانية ربما، لجهة اعتباره "مفصلياً"، كلّها عوامل لها دلالاتها.
وقد لا يكون كافياً، إزاء ذلك، القول إنّ لبنان ليس "مسؤولاً" عن كيفية "توظيف" الاتفاق من هذا الجانب أو ذاك، أو اعتباره "هدية مجانية" في مكانٍ ما، ولو أنّ "الوقائع" تؤكّد أنّه ليس وليد اليوم، بل نتيجة سنواتٍ من العمل والتحضير.
حُمّل "اتفاق الإطار" أكثر ممّا يحمل. ربما. لكنّ الأكيد أنّ "تجريده" ببساطة من كلّ العوامل المحيطة، لا يبدو واقعياً. فلكلّ شيء في السياسة مدلولاته، وإن تأخّر الكشف عنها لبعض الوقت...