علّ وجه الشبه بين معظم سياسيّي العالم اليوم هو الانفصام التام عن مشاعر وقيم وأهداف وطموحات ومتطلبات الناس الذين من المفترض أنهم يمثلونهم؛ إذ مازالت الهوة تتسع بين من يقبضون على السلطة وبين من يُفترض أنهم أعطوا المشروعية لهم. لقد كانت المناظرة بين ترامب وبايدن كارثة بالفعل ومرعبة لأنها وبغض النظر عمّن أحرز نقاطاً أكثر أعطت مؤشراً مخيفاً لانحدار المستوى السياسي والدبلوماسي والأخلاقي لترامب حين رفض إدانة العنصرية التي هي أساس خطير من أسس البلاء الذي يجتاح العالم، وقد اعتبرها معظم المحللين الحريصين على مستقبل البشرية نذير شؤم لمستقبل لا يعرف أحد إلى أين سيقود الشعوب المغلوبة على أمرها. وسواء أكان الرئيس ترامب مصاباً بالكورونا أم إن الإعلان عن إصابته مسرحية مفتعلة للتغطية على فشله في المناظرة فقد أتت إصابته وزوجته لتزيح عن كاهل المهتمين كابوس رداءة السياسة في هذا العصر والخوف من المجهول
القادم ولو إلى حين. وتزامنت المناظرة مع استعار القتال في ناغورمي كاراباخ وسقوط الضحايا والاتهامات المتبادلة بين أذربيجان وأرمينيا حول هوية المسؤول عن بدء القتال، وربما هذه الحرب أيضاً كحرب اليمن الهدف منها بيع الأسلحة الإسرائيلية وتحقيق أرباح هائلة لشركات الأسلحة. ولكنّ شيئاً ما ثابت ولا أحد يستطيع إنكاره وهو المجازر التي تعرض لها الأرمن وقبلهم العرب في "السفربرلك" على يد العثمانيين في العقد الثاني من القرن الماضي، ولا زلنا نتذكّر آلاف القصص التي سمعناها من الجدات والأجداد الذين نجوا من تلك المجازر. ومع ذلك ورغم اعتراف البعض بهذه المجازر التي أودت بحياة الملايين من شعب وحضارة وقيم وتاريخ فإن أقصى ما يقوم به المسؤولون اليوم هو "التحذير" من تصاعد الاشتباكات وسوف يستغرقون عقوداً ليتضح لهم من هو المسؤول عن إزكاء أوار الحرب وسفك دماء الناس الأبرياء. وإذا كان العالم يفتقر إلى الأدلة الواضحة فإن القرائن تلعب دوراً في إيضاح الصور إذا ما توفرت النية والإرادة فعلاً للتوصل إلى جذر الحقيقة؛ فمنذ قرابة عشر سنوات وأردوغان يلعب دوراً شريراً في استقدام
المرتزقة والإرهابيين من أوسع أصقاع الأرض إلى سورية، وفي رعايتهم وتقديم الدعم لهم برعاية أمريكية إسرائيلية وتمويل سعودي وخليجي سخي، وكلّ ما يقوله أردوغان عن محاربته للإرهاب يندرج في تجسيد عملي وواضح للنفاق السياسي المعروف عنه. ثم وبعد أن فشل الإرهابيون في تحقيق أهداف أردوغان العثمانية استقدم جيشه وآلياته ونقل بعضاً منهم إلى إدلب والجزيرة وحلب وليبيا والعراق، واليوم ينقل آخرين إلى أذربيجان. وبالتوازي فقد افتعل قضية اللاجئين وسخّر المال والجهد لاستقدامهم إلى تركيا واستعمالهم كورقة للضغط على أوروبا، وبالتوازي أيضاً قام إرهابيو أردوغان بسرقة معامل حلب وآثار إدلب وتدمير البنية التحتية، وقد قلنا مراراً إن الجرائم التي يرتكبها أردوغان في سورية تتقاطع مع العدوان المتكرر للعدو الصهيوني على هذا البلد إذ أن أطماع أردوغان العثمانية من جهة، والصهيونية من جهة أخرى يتكاملان في السيطرة على المنطقة العربية وثرواتها وفي استخدام الإرهاب كأداة لتحقيق أهدافهم الاستعمارية التوسعية ومنها قضم الأراضي العربية واستعباد العرب ونهب ثرواتهم. ومن لم يصدّق قراءتنا للواقع السوري نتيجة
الافتراءات الإعلامية التي ينشط في تعميمها الإعلام الصهيوني والعثماني ومن لف لفيفهما من المرتزقة والخونة فليس عليه اليوم إلا أن يدرس المشهد بدقة في إقليم ناغورني كاراباخ ليرى التكاتف الأمريكي الصهيوني العثماني ضد أرمينيا وإيران وروسيا، تماماً كما نكص أردوغان بكلّ تواقيعه مع روسيا بشأن سورية ومازال يشكّل الحاضنة الأساسية للإرهاب في شمال وشمال غرب سورية رغم ادعاءاته وأكاذيبه التي لا يمكن أن تغطي بعد اليوم على جرائمه الإرهابية التوسعية. وكما أن أردوغان يمارس الابتزاز على الاتحاد الأوروبي ودول وسط آسيا من خلال تفعيل المنحدرين من أصل تركي في النمسا وألمانيا وآسيا الوسطى فهو أيضاً يستكمل ما فعله أجداده بالعرب والسريان والأرمن من مجازر تاريخية بشعة بحقّ الإنسانية؛ فما الذي يعنيه التحذير أو الإدانة بعد أن يتمّ تشريد شعب واستهداف حضارته وهويته وتاريخه وأسلوب عيشه؟ وهل يعتبر السياسيون الغربيون أنهم يقومون بواجبهم أم يتواطؤون معه حين يحذّرون أردوغان أو يوجهون اللوم له على تعامله مع اليونان أو قبرص أو ليبيا أو العراق أو سورية أو حتى النمسا وألمانيا وأذربيجان؟ وهل
أصبح دور السياسيين والقادة في العالم استشارياً أم أدبياً يقتصر على إبداء الرأي هنا وإصدار تعليق هناك؟ أم أن الأمر يعتمد على موازين القوى؛ فقد كان الرئيس الفرنسي وهو الذي لم يحقق نجاحاً يُذكر لشعبه أول من يصل بيروت بعد التفجير وأعطى مهلاً محدّدة للبنانيين لما يجب أن يتمّ إنجازه ومن بعدها أخذ دور المفوض السامي في مؤتمره الصحفي في الإيليزيه مهدداً ومقرراً ومتوعداً وحازماً بما يجب على القيادات في لبنان القيام به، ثم ذهبت هذه الوعود والتهديدات كفقاعة في مهب الرياح رغم التهافت للقيام بمسرحية أعدتها السفارة الفرنسية. أوَلا تستحق عودة شبح مجزرة جديدة بحق الأرمن تجريماً سريعاً في مجلس الأمن والأمم المتحدة وقراراً دولياً حازماً بوقف هذا القتال الذي لا طائل منه؟ أم أن التعاون بين الكيان الصهيوني والعثماني ومن خلفهما الولايات المتحدة يقتضي أول ما يقتضيه إزكاء الحروب ودعم الإرهاب وإشعال الفتن لبيع السلاح والسيطرة على مصادر الطاقة؟ وفي شريعة الغاب السائدة اليوم في العلاقات الدولية بعد انهيار أسس النظام العالمي ثنائي الأقطاب التي تمّ إرساؤها بعد الحرب العالمية الثانية والتحالف
الصميمي الخفي والذي بدأ يطفو على السطح بين الإخوان المسلمين والعثمانية الجديدة من جهة وبين الصهيونية والعنصرية من جهة أخرى، هذا التحالف لا يعرف حدوداً لإرهابه ولا يفرّق بين شعب وآخر ولا يعنيه معتنقو هذه الديانة أو تلك؛ فالهدف الأساس هو الاحتلال والسيطرة على النفط والغاز وبيع السلاح والاستيلاء على ثروات الشعوب والاستيطان في أرض ليست من حقهم وتشريع الاحتلال والتنكّر لحقّ الشعوب والتغيير الديموغرافي والثقافي والعرقي حيثما أمكن ذلك. لا شكّ أن العالم اليوم يقف على عتبة خطيرة، ولا شكّ أن الاستسلام العربي الذي تقوده الصهيونية في هذا التوقيت يستفيد من انهيار منظومة التضامن العربي بسبب قيام دول مجلس التعاون الخليجي بالتحالف مع إسرائيل وأمريكا وفتح أراضيها للقواعد والطائرات الأجنبية التي بدأ منها العدوان على البلدان العربية الواحد بعد الآخر. وتهدف إسرائيل إلى المضيّ في هذا التوجّه الذي يحاول أن يعيد صياغة الواقع الإقليمي والدولي بما يتناسب مع خططها وأهدافها. على هذه العتبة يجب أن تلعب روسيا والصين والهند والبريكس دوراً قبل أن يتفاقم الخطر، والذي إذا سُمح
له أن يتمدد سوف يطال الجميع ولن تفيد محاولات التهدئة والاسترضاء لمن تملّكه جنون العظمة وجموح العثمَنة والصهيَنة كما لم تثمر في الماضي القريب محاولات استرضاء هتلر لإيقافه عن طموحاته. لم تعد التحذيرات والإدانات هي العلاج، بل المواقف الصارمة الواضحة والتي يمكن أن تبدأ بإعادة الأداء السياسي في العالم إلى التوازن والقدرة على حماية الشعوب بدلاً من الارتهان للوبيّات المال وصنّاع السلاح. العالم بحاجة إلى قيادات لا تطلق التحذيرات والإدانات وحسب بل تمارس صلاحيات وتتخذ إجراءات ومواقف تمنع التدهور المتسارع وتخمد الحروب وترسي أسس الأمن والأمان للشعوب.