في لبنان اجتاحت "الأعراف" دستور الوطن ونجحت في احتلاله وصادرت بنوده وطردت الحبر من صفحاته وصار الوطن بلا دستور وبلا نُظُم ولا أحكام إلا اللمم، وبدلاً من الإحتكام إلى الدستور صار الاحتكام إلى الأعراف يحتل الأولوية وبأسلوب مطاط بحسب المصالح الطائفية والمذهبية حتى أن الميثاق الوطني جرى تقاسم صفحاته حصصاً طائفية ومذهبية.
فالمكونات السياسية في لبنان جميعها شاركت في اغتيال اتفاق الطائف أو ما عُرِف بالوثيقة الوطنية وما فتئ السياسيون يثبتون الأعراف والتسويات المؤقتة بين هذا وذاك تحت مسمى الديمقراطية التوافقية وجعلوا منها أعرافاً دائمة ومثبتة لتصبح دستوراً غير مقونن لكنه متداول ومعتمد بحسب الأحجام و القوى السياسية والحزبية وبشكل يلغي الاحتكام الوثيقة الوطنية، ما أسهم في دفن الدستور بعدما تعمدوا جميعاً القفز فوق مصلحة الوطن و المواطن غير عابئين بالأخطار التي تحيط بلبنان ولا بالأهوال ألسياسية والاقتصادية التي ابتلعت مدخرات الناس وهضمت مستقبل الأجيال.
فإلغاء مهمة الرئيس المكلف والتعدي على صلاحياته الدستورية بحجة الأعراف والتسويات بحسب أحجام الكتل أضحت تشكل عقبة رئيسية أمام أي رئيس جديد للحكومة خصوصاً بعدما جيّروا صلاحيات الرئيس المكلف إلى رؤساء حكومات سابقين أو إلى رؤساء كتل نيابية يتولون تسمية الوزراء وبالإنابة عنه كل على هواه، و جعلوا من مهمة الرئيس المكلف تشكيل الحكومة، مهمة لا تتعدى وظيفة عريف مراقب على حصص الكتل الطائفية والمذهبية، يحمل زوراً لقب رئيس مجلس الوزراء.
في دول العالم من الطبيعي لجوء الكتل النيابية الوازنة إلى إختيار شخصية موثوقة ومن نفس النسيج السياسي لتشكيل حكومة تنفذ برنامجاً سياسياً واقتصادياً وأمنياً يحمي الوطن من الأخطار المحدقة ويعمل على تحسين الظروف المعيشية والضريبة للمواطن و يواكب التقلبات والتطورات في الإقليم وبذلك تنتقل باقي الكتل النيابية تلقائياً وبصورة طبيعية إلى صفوف المعارضة والمراقبة لأداء ألحكومة.
أما في لبنان وبعكس كل ما هو طبيعي لجهة إختيار رئيس لتشكيل الحكومة نرى الكتل النيابية الوازنة غالباً ما تلجأ وبإصرار مستغرب إلى تسمية شخصية من صلب المعارضة للأكثرية، وتمنح حكومته ثقتها في المجلس النيابي بحجة الحفاظ على التوازن الطائفي أو إرضاءً لدول إقليمية ودولية فتصاب الحكومة بنكسة المشاحنات ومعها تبدأ ممارسة الكيدية السياسية المؤدية إلى التعطيل والشلل وعدم الإنتاجية، فتحل لعنة المعيشة الضنكا على المواطن الطيب الذي لا حول له ولا قوة.
مما لا شك فيه أن مسار تكليف رئيس لتشكيل حكومة في لبنان يحتاج إلى تصويت الكتل النيابية "تطبيقاً للدستور" لكن من عجائب لبنان هو تبخر هذا الالتزام بتطبيق الدستور فور البدء بتوزيع الحقائب الوزارية فتسارع الكتل إلى ممارسة اللعبة المفضلة في تناتش الحقائب وتوزيعها حصصاً طائفية ومذهبية.
وإذا سلّمنا جدلاً بأحقية الكتل النيابية التي صوتت للرئيس المكلف تسمية وزرائهم في الحكومة كشرط لمنحها ثقة المجلس النيابي إلا أن هذا الأمر قد أسهم في تعطيل دور رئيس الحكومة إلى حد كبير جاعلاً منه رهينة لأهواء وأطماع الاحزاب والكتل النيابية المتصارعة.
إن مقاربات الحلول وطرق معالجة العقبات ألتي غالباً ما ترافق تكشيل الحكومات جلها تسلك طرقاً خاطئة خصوصاً بعد مشاركة كل الأطراف المعنية بتسويق المقاربات التي تناسب كل فريق على هواه وطبقاً لمقتضيات المصلحة الطائفية أو المذهبية أو بما يتناسب ومجريات الأحداث الإقليمية كل على طريقته، الأمر الذي يؤدي إلى انحراف جوهر المشكله الداخلية عن مسارها السياسي والاقتصادي وحتى الأمني منها فيصار إلى تحويلها تارة إلى مشكلة إقليمية وتارة أخرى إلى تأمين الحقوق الطائفية والمذهبية، وهنا تكمن المعضلة التي تعتبر الأشد فتكاً بالميثاق الوطني و بالوطن.
نحن اللبنانيون المؤمنون بلبنان و بتكوينه الثقافي والحضاري والإقتصادي وبدوره الملهم كرسالة تعايش بين الأديان في المنطقة، صار لزاماً علينا إعطاء الاولوية لبذل المزيد من الجهود لضمان استمرار دور لبنان كوطن لا أوطان، وكرسالة لا رسالات مختلفة متناحرة. و علينا التخلي عن منطق المكتسبات الطائفية والمذهبية والتوجه نحو الجهات ألتي تمتلك إمكانية التصويت لصالح شخصية لتشكيل الحكومة لتبني برنامجٍ إقتصاديٍ واضحٍ وبإشراك جميع المكونات وخارج أي اطار سياسي أو كيدية، بما يضمن الإفراج عن أموال المودعين واستعادة الأموال المنهوبة والمهربة والعمل على استعادة الثقة بلبنان للإسهام في انتشال الوطن و المواطن الطيب من الكبوة التي حلت بنا جميعاً، وبذلك يصبح العثور على رئيس جديد لتشكيل حكومة يلتزم تنفيذ البرنامج الموضوع أمراً في غاية السهولة.
نحن اللبنانيون صار واجباً علينا مواجهة الحقيقة بضرورة البحث الجدي عن أي دستور و أي لبنان نريد.