لم يُرصد أيُّ حراك سياسي في الساعات الماضية يوحي بأن ثمة مستجدات تدفع بإتجاه تحريك ملف تأليف الحكومة. فجأة قرر رئيس الحكومة السابق سعد الحريري الإطلالة الإعلامية. لمجرد طلبه الظهور بحلقة تلفزيونية يعني أن طرحاً سياسياً يريد ترويجه. لا يصح الكلام هنا عن أنه كان يسعى من خلال إطلالته الإعلامية للتصويب على رئيس الجمهورية ميشال عون من باب تأخير موعد الإستشارات النيابية بعد إعتذار مصطفى أديب. ولا يمكن أن يكون طرحه الأزرق يستهدف القفز فوق مشروع زميله رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي بشأن حكومة تكنو-سياسية. ولا يوجد ايضاً أرضية لا داخلية ولا خارجية توحي بأن الوقت حان لتأليف حكومة لبنانية فوراً من دون تأجيل. اذا ماذا يريد "الشيخ سعد"؟ لم يُجر أيَّ تواصل سياسي دسم مع القوى بعد إعتذار أديب. ولا القوى الفاعلة تشاورت معه بشأن الخطوات الحكومية المطلوبة. كأن كلّ فريق كان ينتظر الآخر كي يقوم بمبادرة تخرق جدار الأزمة وتكسر الجمود السياسي القائم، أو هم يعرفون أن قرار الإنطلاقة الحكومية لم يحن بعد.
فجأة إتخذ الحريري قرار الإطلالة للحديث عن توجه سياسي لديه. كان رئيس الجمهورية أسرع من حلقة "الشيخ سعد" التلفزيونية بدعوة بعبدا إلى الإستشارات النيابية التي حدّدها بعد بضعة أيام. عملياً، وضع رئيس الجمهورية القوى أمام مسؤولياتها: تفضلوا وإتفقوا على إسم رئيس الحكومة. او سمّوا من تشاؤون. هنا تشير المعلومات إلى أن عون إتخذ القرار من تلقاء نفسه من دون مراجعة أحد، ولا التشاور مع الفرنسيين رعاة مبادرة الحل في لبنان. لن يستطيع الحريري بعد دعوة رئيس الجمهورية ان يصوّب بإتجاه بعبدا. اساساً، ليس من مصلحة "الشيخ سعد" رمي أي سهم نحو أحد، في وقت تتمسك به القوى الفاعلة كمرشح لتولي تأليف الحكومة. لم يعد الفيتو الموجود حول إسمه فاعلاً. أصبح الجميع يتمنى ولادة حكومة قبل فوات الآوان، بغض النظر عن إسم رئيسها. لم يعد يتحمّل أي فريق تبعات الأزمة الإقتصادية: تتسع مساحة الهواجس من تداعيات رفع الدعم المالي. من يضمن أن يبقى الشارع مضبوطاً؟.
كل ذلك لا يعني أن هناك بوادر إيجابية موجودة. وحده ميقاتي أطلّ بفكرة كانت تصلح فعلاً أيام أديب: هل تصلح الآن؟ لا أحد تجاوب مع مشروع رئيس "العزم". لقي طرحه صدى اعلامياً لا سياسياً. ثم كانت اطلالته يستبق فيها حديث الحريري بساعات لرمي الكرة في ملعب "الشيخ سعد" من خلال إعادة ترشيحه لرئاسة الحكومة. لكن ميقاتي يعلم أن الحريري كرّر مرات عدة أنه لا يريد ان يكون رئيساً لحكومة في هذا العهد. فهل يرد "الشيخ سعد" الطابة إلى ملعب زميله الطرابلسي؟ أم أنّه يريد اعادة تجربة مصطفى أديب؟ يُقال ان خيار اعادة تكليف السفير اللبناني في ألمانيا وارداً في حال عدم الإتفاق على بديل. لكن عودة أديب ستكون وفق معادلة تأليف مغايرة: على الأقل الأخذ بمبادرة ميقاتي.
أين الفرنسيون مما يجري في لبنان؟ صمت واضح يوحي بعجز باريس، بعد رصد استهتار اللبنانيين بمهلة الأسابيع الستة التي حددها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لولادة حكومة. ربما أيقنت فرنسا أن التعقيدات الخارجية هي التي تكبّل مبادرتها. لم تعد تحمّل ثنائي حركة "أمل" و"حزب الله" مسؤولية التعطيل الحكومي، بل ان مضمون لقاء سفيرها في بيروت ومسؤول "حزب الله" عمار الموسوي دار حول مسؤولية الإدارة اللبنانية للمبادرة الفرنسية في تحطيمها. مما يعني ان سفيرة فرنسا الجديدة في لبنان ستغيّر قواعد اللعبة الباريسية في بيروت. وعليه لا يمكن ان تنطبق قواعد التأليف التي تحكّمت بمهمة أديب مع متطلبات المرحلة الآتية. لا بدّ وأن يُظهر الحريري حجم التغيير. لكن هناك من لا يجد أي بصيص أمل داخلي بسبب السخونة الإقليمية وتحديدا في جبهة إيران-السعودية. لو كانت هناك التفاتة سعودية نحو لبنان، لتمّ تكليف الحريري لتأليف الحكومة. لكن أحد الأسباب الجوهرية لتمنّع "الشيخ سعد" هو تحييد المملكة نفسها عن لبنان.
ما العمل؟ هناك من يقول أن الفترة الحالية هي للإنتظار والترقب حتى موعد الإنتخابات الرئاسية الأميركية. لكن الأوضاع الإقتصادية في لبنان لا تتحمل مزيدا من التأجيل. آن آوان الحلول اللبنانية من دون تأخير. هناك محطتان مؤشرتان: بدء التفاوض غير المباشر بشأن الحدود الجنوبية الاربعاء المقبل، ثم الإستشارات النيابية بعدها بيوم واحد. فلننتظر.