على الرغم من مُرور أسابيع عدّة على إنطلاق المُواجهات العنيفة في إقليم "ناغورنو كاراباخ"، لا تزال الكلمة العُليا لأصوات القذائف والصواريخ، في ظلّ تنامي المُخاوف من توسّع دائرة المعارك، ومن تحوّله إلى مُواجهة إقليميّة–دوليّة كما حدث أخيرًا في أماكن ساخنة أخرى في العالم. فما هي أسباب هذا الصراع؟ وما هو موقف كلّ من أرمينيا وأذربيجان وباقي الدُول المَعنيّة أو المُؤثّرة؟.
بالنسبة إلى أسباب الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، لا بُدّ من التذكير أنّ جُذوره تعود إلى نهاية العقد الثاني وبداية العقد الثالث من القرن الماضي، وفي تلك الحقبة كان لكلّ من الدولة العثمانية والإمبراطوريّة البريطانيّة دور في تأجيجه. ومنذ قرن كامل حتى اليوم، لم تُحلّ الخلافات بشأن ملكيّة بعض الأراضي، علمًا أنّ الإختلافات الدينيّة والعرقيّة بين الأرمن والأذربيجان، ساهمت في تأجيج الصراع الذي أوقع عشرات آلاف الضحايا. وبالنسبة إلى إقليم "ناغورني كاراباخ"(1) والذي يُطلق عليه أيضًا إسم "أرتساخ" (التسمية الأرمنيّة)، فهو عبارة عن إقليم جبلي يقع في جنوب القوقاز، وهو يُشكّل محور الخلاف القديم–الجديد بين الجُمهوريّتين السوفيتيّتين القديمتين. وقد تجدّد القتال الدموي بين الطرفين في نهاية ثمانينات وفي بداية تسعينات القرن الماضي، وتحديدًا خلال مرحلة نهاية الحُكم السوفياتي، ودارت معارك ضارية بين القوات الأذربيجانيّة والأرمنيّة لسنوات عدّة، إنتهت باتفاق لوقف النار وُقّع في العام 1994، لكنّ المُفاوضات التي جرت خلال مرحلة الهدنة، فشلت في التوصّل إلى معاهدة سلام دائم حتى اليوم، ووقعت بالتالي أكثر من مُواجهة بين الأطراف المعنيّة بالخلاف، ابرزها جرى في نيسان 2016. واليوم عاد هذا الصراع إلى الواجهة، إعتبارًا من تمّوز الماضي، حيث تتهم أذربيجان أرمينيا باحتلال 20% من أراضيها منذ العام 1992، وهي تشنّ حاليًا هجمات عسكريّة في مُحاولة لإستردادها بالقُوّة.
وترفض أذربيجان وقف المعارك حاليًا، مُستفيدة من الدعم الكبير الذي تمنحه تركيا لها، حيث تعتبر أنّ الوقت مناسب اليوم لإستعادة السيطرة على إقليم "ناغورني كاراباخ" الذي تصفه بالإنفصالي، حيث يكتفي العالم الغربي بإصدار بيانات الإدانة وبالدعوة إلى وقف النار وحلّ المشاكل بالحوار، بينما تقوم تركيا التي ترتبط مع أذربيجان بعلاقة جيوسياسيّة متينة، بمدّها بالسلاح والذخائر، وخُصوصًا بالمقاتلين المُرتزقة. ومن الضروري الإشارة إلى أنّ أذربيجان الغنيّة بالنفط، تمكّنت خلال العقدين الماضيّين من التحوّل من دولة ضعيفة إلى لاعب إقليمي، مُستفيدة من الأموال الي كسبتها في مجال الطاقة، وعملت على زيادة قوّتها العسكريّة على حساب مُعالجة مشاكل الفقر والفساد في البلاد. وعقدت أذربيجان صفقات أسلحة ضخمة مع إسرائيل، وإشترت السلاح من روسيا أيضًا، وأعادت بناء جيشها بأسلوب حديث.
بالنسبة إلى أرمينيا(2)، الدولة القليلة عدد السُكّان والمَحرومة من أيّ منفذ بحري، فهي حاليًا بموقع الدفاع عن النفس، علمًا أنّها ترفض مُحاولات أذربيجان السيطرة على إقليم "ناغورني كاراباخ" أو "أرتساخ"–كما تُسمّيه، وتهجير الأرمن منه، وهي تُحاول بشتّى الطُرق عدم تكرار المجازر وعمليّات التهجير الواسعة السابقة بحقّ الأرمن. وتعتبر أرمينيا أنّ المُشكلة الكُبرى تتمثّل في التدخّل التركي المُباشر بالنزاع، علمًا أن لا علاقات رسميّة بين تركيا وأرمينيا، بل علاقة مُتوتّرة مُثقلة بتاريخ دموي إرتكبه العُثمانيّون بحقّ الأرمن قبل قرن من الزمن.
إشارة إلى أنّه إضافة إلى التأثير التُركي الكبير والمُباشر في الصراع الدائر بين أذربيجان وأرمينيا، يُوجد تأثير بنسبة أقلّ لروسيا التي ترتبط بعلاقات جيّدة جدًا مع أرمينيا. وروسيا التي تملك قاعدة عسكريّة داخل أرمينيا، تنضوي مع هذه الأخيرة في منظمة "معاهدة الأمن الجماعي" الخاصة بالدول التي كانت ضمن الإتحاد السوفياتي السابق، لكن دعمها لأرمينيا لا يشمل الإقليم المتنازع عليه. وتبذل روسيا التي كانت باعت السلاح لكلّ من أرمينيا وأذربيجان في السابق لأسباب مادّية، جُهودًا كبيرة لإيجاد المخارج السلميّة المناسبة للأزمة، وهي عرضت إستضافة مؤتمر سلام لهذه الغاية على أراضيها، لكن لا تجاوب من أيّ طرف مع وساطتها بعد. وبحسب أكثر من مُحلّل غربي، لا يُمكن فصل النزاع في إقليم "ناغورنو كاراباخ"، والتدخّل التركي والروسي فيه، عن الصراع بين هذين الأخيرين في كامل المنطقة، من سُوريا وُصولاً إلى ليبيا.
أمّا إيران، التي يشكّل العرق الأذري جزءاً كبيراً من سكانها - يصل إلى أكثر من 25% وكانوا قد نظموا عدداً من التحركات الشعبية دعمًا لأذربيجان - غير مُرتاحة لما يحصل قرب حُدودها، وقد عرضت بدورها التوسّط بين الطرفين، علمًا أنّ طهران أعدّت خطّة لحلّ النزاع وفق رؤيتها للتسوية، لكن لم يتم المُوافقة على هذا الإقتراح من أي طرف بعد.
إشارة إلى أنّ إيران تدعم ما وصفه المُتحدّث بإسم حكومتها محمود واعظي، بحقوق أذربيجان بوحدة أراضيها، كما أكد مستشار المرشد الأعلى للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي أن أرمينيا تحتل هذا الإقليم وفق القانون الدولي وعليها إعادته لأذربيجان. ورغم الموقف الرمادي لإيران بداية الأزمة، الذي كان باتت اليوم أكثر صراحة في أعلانها الوقوف إلى جانب أذربيجان، لكنّها لا تعتقد أنّ الحلّ العسكري مناسب لهذه المُشكلة، علمًا أنّها لا تريد في الوقت عينه أن تمنح تركيا ورقة بيدها في هذا الصراع في حال فوز أذربيجان عسكريًا بدعم تركي وبسلاح إسرائيلي.
وبحسب التوقّعات بالنسبة إلى ما سيحصل في المرحلة التالية، تُجمع الآراء على أنّ النزاع سينتهي بهدنة جديدة. لكن التخوّف كبير من ألاّ تحصل هذه الهدنة في القريب العاجل، بسبب إصرار أذربيجان مَدعومة من تركيا ومُستقوية بالسلاح الإسرائيلي المُتطوّر، على تحقيق إنتصارات ميدانيّة لتوظيفها في مُفاوضات التسوية التي لا بُدّ وأن تحصل. ويعتقد مُحلّلون غربيّون أنّه كلّما طال أمد الصراع، كلّما زادت صُعوبة حلّه قريبًا، وهم يتخوّفون من أن يفتح التدهور العسكري الحالي، الباب أمام مزيد من التدخّل الخارجي في المنطقة، ويعتبرون أيضًا أنّ تمكّن أذربيجان من السيطرة على مناطق داخل إقليم "ناغورنو كاراباخ" سيزيد الأمور تعقيدًا. ولأنّ للبنان "بكل عرس له قرص"–كما يقول المثل الشعبي، إنقسم بعض اللبنانيّين بين مؤيّد لأرمينيا ومؤيّد لتركيا في هذا الصراع، تارة لأسباب طائفيّة، وتارة أخرى لأسباب عرقيّة، وطورًا لأسباب سياسيّة، وكأنّ ما نحن فيه من إنقسامات لا يكفينا!.
(1) كلمة "ناغورنو" باللغة الروسيّة تعني مُرتفعات، بينما "كراباخ" تعني باللغة الأذريّة "الحديقة السوداء"، ويضمّ هذا الإقليم خمس مُحافظات.
(2) تُعتبر من اقدم الحضارات المسيحيّة حيث تأسّست كنائسها الأولى في القرن الرابع ميلادي.