بعد نحو سنة على اندلاع التحركات الشعبية و"الثورة" التي انتشرت في معظم المناطق اللبنانية، وكانت النتيجة مباشرة لها استقالة رئيس الحكومة في حينه سعد الحريري، وتعرضه لانتقادات (كما غيره من المسؤولين) لتسببه في ايصال لبنان الى الحالة التي يعيشها. اليوم، اختلفت الامور، ووفق المفهوم الرياضي، دارت الاحداث 360 درجة، اي اننا عدنا الى نقطة البداية، بدل ان تدور الاوضاع بمقدار 180 درجة كي نسير في الاتجاه المعاكس، فما الذي حصل؟!.
نبدأ من الداخل، وبالتحديد مع رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي كان الاكثر تأثراً باستقالة الحريري، وحاول ثنيه عنها دون ان ينجح، فكان تصميمه واضحاً على عودته، وقد استطاع ان يضم اليه حزب الله ليكون الثنائي الشيعي المحرك الاساسي لعودة الحريري الى السراي الكبير. وعلى الرغم من كل العقبات السياسية والشعبية، عمد الثنائي (بحراك ناشط من بري ومراقبة ايجابية من الحزب) الى اعادة اظهار الحريري على انه الشخصيّة الوحيدة القادرة على اعادة لم التوافق من جهة، وتنفيذ المطلوب من جهة اخرى لاخراج لبنان من محنته. ولن يكون من المبالغ فيه القول أنّ برّي تولى ترتيب الاتصالات مع الافرقاء في الداخل لاعادة وصل ما انقطع من العلاقة مع الحريري، ونجح بنسبة كبيرة جداً، حتى مع التيار الوطني الحر الذي بدا وان القطيعة بينه وبين الحريري كانت ابديّة، فإنّها شهدت تحسناً كبيراً ولو انه من غير المحتمل ان تعود الى ما كانت عليه قبل 17 تشرين الأوّل. كما ان العوامل الداخلية والخارجية تضافرت ايضاً للمساعدة على عودة الحريري، من خلال عدم انجاز رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب ما توقع القيام به، فيما اقصي مصطفى اديب قبل ان يعمل على تشكيل الحكومة، وفي هذين الحدثين مثال على مدى اصرار الثنائي الشيعي على عودة الحريري، الذي كان العمل جار معه بشكل حثيث للخروج باطلالة جديدة تبقي قدر الامكان على التوازن الدقيق بين الحفاظ على عصب الشارع السنّي ومؤيّديه من جهة، وعلى ما تحقق من تقدم على جبهة الاتصالات والمشاروات الداخليّة مع الافرقاء الآخرين من جهة ثانية، وقد ظهر ذلك بوضوح في المقابلة الاخيرة للحريري، وما تضمّنتها من مواقف.
اما على الخط الدولي، فبعد أن أحسّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بالاحراج من إمكان تقويض مبادرته التي القى بثقله خلفها كي تتحقق، رأى أن الحل يكمن في النجاح بتأمين غطاء دولي شامل للمبادرة ودفع الدول الى الضغط على اللاعبين اللبنانيين (كل على من يمون عليه)، في سبيل الخروج من هذا المستنقع والابقاء على ماء الوجه واكبر نسبة من النفوذ الفرنسي في لبنان. وعليه، لن يجد ماكرون أي حرج في السير بالحريري اذا ما نجحت الاتصالات الجارية في هذا المجال، كما انه لن يجد صعوبة عندها مع الدول الاجنبية، في اقناع السعوديّة بتليين موقفها، علماً أن نفوذها انحسر كثيراً في لبنان بفعل التشرذم الخليجي الحاصل والدور التركي المتصاعد في المنطقة ولبنان.
وعليه، فإن النظرة الحالية الى الامور اذا ما بقيت على ما هي عليه، تحمل بعض التفاؤل لجهة بداية الخروج من النفق المظلم وظهور بعض الضوء، انما وكي لا نذهب بعيداً في مخيّلتنا، فإننا سنعود الى الايام التي سبقت 17 تشرين الأوّل الفائت، ولن نعود الى ما نطمح اليه لجهة رؤية لبنان كبلد بعيد عن الفساد والهدر والطائفية وغيرها من الامور التي عانينا منها لعقود من الزمن واوصلتنا الى الهاوية وليس فقط الى حافتها.
انها قصة الانتقام والغرام من الحريري على مدار سنة، واذا ما نجح بالفعل بالعودة الى رئاسة الحكومة من جديد وفق ما هو متوقّع، نكون كمّن دخل بملء ارادته باباً دوّاراً معتقداً انه سينتقل الى الضفة الاخرى، لكنه سرعان ما عاد الى حيث كان، مع فارق أساسي ان العودة اتت بثمن مرتفع جداً هذه المرة. فهل من استوعب الدرس؟!.