لا شك بأنّ لبنان بحاجة الى فضّ النزاع حول المنطقة الاقتصادية الخالصة العائدة له في حدّها الجنوبي للانصراف الى التنقيب عن ثروته من النفط والغاز في حقول يتوقع وجودها في الجزء الجنوبي من تلك المنطقة. وهو نزاع نشأ بعد أن اكتشف الجيش اللبناني خطأ ارتكبه الوفد الذي أوفده رئيس الحكومة آنذاك فؤاد السنيورة الى قبرص في العام 2007 وتمثل في وضع العلامة الأساس في النقطة 1 بينما كان يجب ان يضعها في النقطة 23 كما اكتشف الجيش اللبناني عند التدقيق عندما أحيل إليه الملف بعد أكثر من سنة من تنظيمه.
ولا شكّ بأنّ فضّ النزاع على الحدود بين الدول يكون على وجهين اثنين وفقاً لقواعد القانون الدولي العام، اما رضاءً أو قضاءً. ويتشكّل الرضا والتوافق عبر تفاوض مباشر او غير مباشر بينهما ويعمل به تطبيقاً لقاعدة أساسية في القانون الدولي العام تقول «الدول ترسم حدودها»، أما الفصل القضائي فيكون عبر لجوء الدول المتنازعة الى التحكيم أو القضاء الدولي، وهو مسار يشترط لتطبيقه توافق الأطراف على اختيار المحكم أو المحكمة، مع التزام متبادل بينهما على تنفيذ قرار المحكم أو المحكمة، أو قدرة أحد الطرفين على إلزام الآخر بتنفيذ القرار وأخيراً استيفاء الطرفين شروط التقاضي الدولي الى الحدّ الذي قد يفسّر قانوناً بأنه نوع من الاعتراف المتبادل بينهما بالشخصية المعنوية العمومية لكلّ منهما.
ولا شك بأنّ لبنان لم يلجأ إلى خيار الضرورة بالتفاوض غير المباشر وبوساطة أميركية وبرعاية من الأمم المتحدة إلا لأنه رأى أنّ هذه الطريق هي الأقلّ خطراً وسوءاً والأكثر ضماناً للوصول الى نتيجة ممكنة التطبيق مع ضمان لتنفيذ ما قد يتمّ التوصل اليه وذلك لأنّ «إسرائيل» لا تنصت ولا تخضع لأيّ هيئة دولية او قانون دولي وهي محترفة في الخروج على القانون والتملص من تنفيذ قرارات المجتمع الدولي بما في ذلك مجلس الأمن الدولي او الجمعية العامة للأمم المتحدة او المحاكم والهيئات القضائية الدولية، ولكن الأمر يختلف معها اذا تدخلت أميركا وضمنت الوصول الى اتفاق وضمنت تنفيذه فهنا قد يكون الحصول على نتائج إيجابية اكثر احتمالاً.
بيد انه وبقطع النظر عن الملاحظات والثغرات التي سجلناها على ما تمّ التوصل اليه مع أميركا من «تفاهم إطار إطلاق المفاوضات» غير المباشرة مع «إسرائيل» (وُصف خطأ بانه اتفاق )، وبعيداً عن النقاش الذي يطول حول الموضوع شكلاً ومبنى وأصول وإجراءات، خاصة أننا لسنا من المشجّعين على هذا السلوك أصلاً وقد رفضناه في العام 2000 وتمكنّا من فرض صيغة غير تفاوضية تمكننا من استعادة حقوقنا، بقطع النظر عن كلّ ذلك بعد تحفظنا عليه، فإنّ لبنان وصل الى ما وصل اليه وسيجد نفسه اعتباراً من 14102020 تاريخ بدء المفاوضات المنوّه عنها أمام تجربة جديدة ليست بالسهلة، ولكنه ليس بالضعيف في خوضها، وأعود وأكرر رغم عظيم ملاحظاتنا على المرحلة التي أفضت الى ما أصبحنا عليه، فإنّ الوفد اللبناني بحاجة الآن الى كلّ الدعم والمؤازرة الوطنية، لأنّ التماسك الوطني مع الوفد المفاوض من شأنه أن يشحذ إرادة الوفد ويرفع من معنوياته ويؤكد ثقته بنفسه ويشجعه على التمسك بصلابة بالحقوق الوطنية دونما خضوع لأيّ ضغط من أيّ نوع كان وبما قد يستفيد منه العدو.
انّ الوفد العسكري الوطني اللبناني يستحق كلّ الدعم في تجربته الجديدة في مفاوضاته غير المباشرة مع العدو الإسرائيلي لتمكينه من الإمساك ثم استعمال مصادر القوة التي تجعله أشدّ بأساً وأرسخ موقفاً، وقد سجلت كما بات معلناً مواقف رسمية وتبلورت توجيهات قاطعة بأنّ الوفد العسكري اللبناني المطعم بتقنين ومستشارين غير سياسيين وغير دبلوماسيين قد نظم نفسه وحدّد برنامج عمله في المهمة التي كلف بها على أسس واضحة حدّد بيان قيادة الجيش معالمها عندما ذكر بأنّ قائد الجيش في توجيهاته للوفد أكد على «أنّ التفاوض بهدف ترسيم الحدود البحرية على أساس الخط الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة براً والممتد بحراً تِبعاً لتقنية خط الوسط، من دون احتساب أيّ تأثير للجزر الساحلية التابعة لفلسطين المحتلة استنادا الى دراسة أعدتها قيادة الجيش وفقا للقوانين الدولية. وعليه سيكون الوفد اللبناني محكوماً في عمله بما يلي:
1 ـ المهمة والموضوع. انّ لبنان في مفاوضاته غير المباشرة مع العدو الإسرائيلي سيلتزم بموضوع واحد هو ترسيم الحدود البحرية وفضّ النزاع حول ملكية المساحة المحدّدة بـ 862 كلم2 والمتشكّلة من مثلث رؤوسه الثلاثة هي النقاط 1-23-B1 وانّ مهمة الوفد هي حصرية لا يمكن ان تتعدّى ذلك فلا مسّ بالحدود البرية المرسمة ولا حديث من قريب او بعيد بأيّ شأن ذي طبيعة سياسية.
2 ـ الشكل: لن يكون هناك حوار او اتصال اونقاش مباشر بين الوفدين اللبناني والإسرائيلي حتى ولو جمعهما سقف واحد، والأفضل ان يكون كلّ وفد في غرفة منفصلة عن غرفة الوفد الآخر ويكون الوسيط ساعياً بينهما، كما أنه لن يكون هناك توقيع على محضر واحد يجمع توقيع الطرفين بل سيكون هناك محضر من نسختين متطابقين يوقع إحداهما لبنان مع الراعي والوسيط والأخرى توقعها «إسرائيل» مع الراعي والوسيط أيضاً.
3 ـ قيود التفاهم حول إطار المفاوضات. بات واضحاً للوفد اللبناني من خلال التوجيهات التي تلقاها من رؤسائه في المستويين السياسي والعسكري، انّ ما أغفل ذكره في تفاهم الإطار او ما استعمل في غير محله في هذا التفاهم ليس من شأنه ان يشكل قيوداً للوفد او ينقص قيمة الحق اللبناني به بل للوفد التمسك بمرجعياته القانونية وبالمصطلحات العسكرية كما وبالحقوق اللبنانية المكتسبة.
4 ـ الإجراءات التمهيدية: بات واضحاً لا بل بديهيا انّ لبنان لن يناقش الترسيم البحري قبل ان يصحّح موقع النقطةB1 ويعيدها الى مكانها على صخرة رأس الناقورة بعد ان عبثت بها «إسرائيل» وحركتها شمالاً لمسافة 25م وترسيم الحدود البحرية يلزمه ان تكون النقطة الأساس المبتدأ على البرّ في الموقع الذي حدّدته اتفاقية «بولييه نيوكمب»، ولن يتوقف الوفد اللبناني عند الجدل حول ترسيم في البر متلازم مع ترسيم في البحر لأنّ الترسيم البري غير مطلوب كونه موجود أصلاً منذ العام 1923، ولكن الوفد سيكون ملزماً بإزالة العدوان عن الحدود البرية ليتمكّن من الانطلاق الصحيح نحو ترسيم الحدود البحرية التي تبدأ من النقطةB1 بعد إعادتها الى موقعها الصحيح حسب الاتفاقية.
5 ـ ردّ الفعل على احتمال خروج المفاوضات عن مسارها. لن يكون الوفد اللبناني ملزماً بالبقاء في مجلس التفاوض بل سيكون ملزماً بالخروج منه عندما يلمس خروجاً عن الموضوع او خرقًا للشكل او تهاوناً او انحيازاً من قبل الراعي او الوسيط، وسيتذكر الوفد اللبناني دائماً انه ليس ضعيفاً ففي يديه أوراق قوة أساسية تؤكد على الحقوق التي يطالب بها ويريد تكريسها بالاستناد الى تلك الوثائق التي تبدأ باتفاقية «بوليه نيوكمب» 1923 وبعدها اتفاقية الهدنة 1949 وبعدها القرار 425 ثم قانون البحار 1984 وأخيراً القرار 1701، وثائق تشكل أسلحته القانونية التي ترفدها القوة المادية التي تشكلها ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة.
6 ـ وسيتذكر الوفد عند كلّ خطوة او كلمة او أشارة او تلميح انّ العدو سينصب له الكمائن والأفخاخ وسيستدرجه الى ما لا يريد او الى ما لم يفوّض به من قبل السلطة السياسية فهو يسعى الى التطبيع والاعتراف به والتأسيس لسلام الإذعان مع التنازل عن الحقوق، وكلّ ذلك سيكون مرفوضاً من قبل لبنان ووفده المفاوض الذي سيتمسك بكون المفاوضات هي مفاوضات غير مباشرة لترسيم حدود بحرية حصراً بين لبنان وفلسطين التي يحتلها كيان العدو الإسرائيلي الذي لا يعترف به لبنان ليس أكثر.