تزايدت في الأسابيع الماضية تساؤلات، أهمها: هل إنتهى تفاهم مار مخايل الذي كان عُقد في شباط ٢٠٠٦ بين "​حزب الله​" والتيار "الوطني الحر"؟ هل يعني تباعد السياسات بينهما في الآونة الاخيرة طلاقَ الفريقين بعد قرابة عقد ونصف من التفاهم السياسي؟.

لم يُعلن أيّ فريق من الإثنين أن تفاهم مارمخايل يحتضر، رغم السهام التي يوجّهها مسؤولون في "الوطني الحر" للحزب بطريقة غير مباشرة، علماً أن الحاجة المتبادلة لبعضهما البعض لا زالت موجودة. أقلّه ألاّ وجود لحلفاء حالياً للتيار في الساحة اللبنانية بإستثناء الحزب المذكور الذي وقف مع حليفه في السرّاء والضرّاء وساهم في وصول زعيمه الى أعلى منصب رئاسي لبناني، وفرض رئيسه الحالي في كل حكومات المرحلة الماضية وزيراً إمبراطوراً: جبران باسيل.

لكن هناك معطيات بالجملة تفرضُ القراءة بتأنٍ لمعرفة مسار العلاقات على خط "حزب الله"-"الوطني الحر"، وإستخلاص ما هو آت، بعدما جاء بيان الساعات الماضية ينتقد تعيين مدنيين في لجنة المفاوضات غير المباشرة بشأن الحدود الجنوبية. وهو أول إشارة علنية للتباين السياسي الحاصل بين الحزب والتيار.

يردّد مطّلعون أن رئيس الجمهورية لم يستجب لطلب حصر أسماء الوفد المفاوض بالعسكريين، رغم محاولات إقناعه، وهو ما فسّره المطّلعون أنفسهم بأن بعبدا إستجابت لطلبات أميركية في هذا الإطار، خشية من العقوبات التي لمّحت بها واشنطن سابقاً بحق عدد من المحيطين برئيس الجمهورية، ومنهم باسيل شخصياً. هنا يُحكى في الأوساط السياسية والصحافية عن دور يقوم به الوزير السابق سليم جريصاتي، وهو مهندس سياسة العهد حالياً، من أجل إبعاد كأس العقوبات عنه شخصياً، علماً ان جريصاتي كان من أبرز المقرّبين من الحزب، والمنظّرين الدستوريين لخطوات فريقهم، منذ أن كان محسوباً على رئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود. عرف جريصاتي سر سلوك طرق الحزب والتيار وحلفائهم، وتقدّم عن باقي زملائه في مجموعة الرابية في البقاء الى جانب عون، بينما إبتعد او أُبعد البعض.

من ناحية ثانية، أتت معارضة رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب "التفرد" في تعيين الوفد اللبناني المفاوض، واضعاً إياه في خانة مخالفة الدستور "كما نصت المادة ٥٢"، أي يتولى رئيس الجمهورية المفاوضة بالإتفاق مع رئيس الحكومة. هنا لوحظ ان نادي رؤساء الحكومات لم يدافع عن دياب ولا عن "انتهاك صلاحية رئيس الحكومة"، وغالب الظن إدراكاً من اعضاء النادي ان هناك ضغطاً اميركياً على رئيس الجمهورية لا يريدون إستحضاره إليهم، عدا عن أنهم لا يريدون إعطاء دياب أيّ إهتمام.

وإذا صحّ السيناريو المذكور بشأن استجابة بعبدا للضغوطات الأميركية ورفض طلبات "الثنائي الشيعي"، فإنّ "حزب الله" سيلمس مزيداً من التغيير في سياسة العونيين، إلى حد التناقض مع ثوابت الحزب، كما ظهر في سؤال النائب زياد أسود عن سبب عدم الجلوس مع الإسرائيليين في تفاوض مباشر معهم على طاولة واحدة. فهل هناك متغيّرات إستراتيجية في سياسة العونيين؟ هذه المسألة بالذات تستفز الحزب بقوة، لأنها تناقض عقيدته السياسية وثوابته التي نال شرعيته الوجودية من صلبها. لذا، لا يمكن أن يتساهل فيها، ولا أن يتجاوز هفوات أو قناعات حلفائه إذا مسّت بمبادئه التي قدّم لأجلها دماً وشهداء في مسيرة طويلة. من هنا يمكن الجزم بأن التفاهم بين التيار والحزب يهتز بشكل غير مسبوق إلى حد الإحتضار قبل إعلان الوفاة المحتمل في حال أعلن أحد الفريقين عن عدم تمسكه بالآخر. هذا التخلّي لا يكون بالإعلان فحسب، بل الممارسة التي تطلّ بين محطة وأخرى، وقد بدأت "القناعة تتسلّل الى جمهور الحزب بأن العونيين تغيّروا". يعرف أنصار التيار أن معموديات السياسة ومواجهة المخاطر حكمت طبيعة المرحلة الماضية بين جمهورين واسعين، بدليل خوض معركة وصول "الجنرال" الى سدة رئاسة الجمهورية بثبات ونجاح. ثم مجابهة الإرهاب ومنع المجموعات المتطرفة من إجتياح لبنان. لو قدّر للدواعش أن يصلوا إلى قرى لبنانية، كانت ستتكرّر مشاهد التهجير والتنكيل التي جرت في "سوراقيا" بحق اللبنانيين إنطلاقاً من القاع ورأس بعلبك مرورا بالفاكهة والعين إلى دير الأحمر صعوداً نحو بشري في الشمال، فزغرتا، ثم بإتجاه البحر. كان السيناريو المُشار إليه موجوداً كما أكدت إعترافات الموقوفين الإرهابيين.

عند هذه النقطة كان يتغنّى أنصار "حزب الله" و"الوطني الحر" بأهمية تفاهم مارمخايل الذي فرض تحالفاً محلياً وإستراتيجياً مثمراً، وأرسى جواً شعبياً وطنياً مهماً. فعلاً وُجدت ثمرات التفاهم: إستطاع أن يؤمن التيار البرتقالي للحزب غطاءً مسيحياً لم ينجح حليف الأخير رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية في إيجاده. واذا كانت هذه الثمرة هي الأساس التي قطفها الحزب من شجرة "مارمخايل" منذ ١٤ عاماً، فهل لا زالت متوافرة؟ يوحي خطاب "العونيين" حالياً بأن الغطاء البرتقالي يُسحب تدريجياً: عدا عن "نتعات" صقري التيار زياد أسود وناجي حايك المباشرة والمنقولة التي توسّع الشرخ مع جمهور "حزب الله"، يكرّر مسؤولون في "الوطني الحر" الكلام عن تباين الفريقين في"كيفية بناء الدولة"، وهي مسألة جوهرية توحي وكأن الحزب لا يريد بناء الدولة، أو هو "يغطّي الفساد". لكن الأوساط المطّلعة تستحضر محطة واحدة فقط، على سبيل المثال، للدلالة على "عدم صحة الشعارات": تعطيل التشكيلات القضائية التي كان من المُفترض أن تُشكّل اللبنة الأساسية في عملية مساءلة الفاسدين. أتى تجميدها في الأدراج ليسمح بإبقاء قضاة في فلك المحسوبيات، التي ظهرت تداعياتها في "الهمروجة" الإعلامية في ملف الفيول المغشوش، ليتبيّن مثلاً بعد التحقيقات أن مدير المنشآت النفطية سركيس حليس، بحسب مضمون القرار الظني، أنه متهم بالإخلال بالواجبات الوظيفية لا غير". هذا يؤكد ما قاله "المردة" عن "تجنٍ وإفتراءات وحسابات ومصالح سياسية". ومن هذا المثال يمكن إستحضار محطّات أخرى في قطاع الكهرباء الذي يُعتبر "قمة الهدر". مما يعني بالنسبة الى جمهور واسع أنّ تلك العناوين هي شعارات لا تنطبق مع سعي النائب حسن فضل الله المكلّف من قيادة الحزب بكشف وملاحقة ملفات الفساد. الحديث يطول هنا.

على هذا الأساس يزداد الشرخ بين قيادتي التيار والحزب: لا توافق بشأن مشروع قانون العفو عن السجناء. لا مقاربة واحدة لقانون الانتخابات. لا توافق بشأن لجنة مفاوضات ترسيم الحدود. لا استعداد عند رئيس التيار جبران باسيل لتسليف حليفه "حزب الله" مما أحرج الأخير مرات عدة أمام جمهوره، في التعيينات، ومحطات النجاح المجمّد في مجلس الخدمة المدنية. ايضاً الحديث يطول هنا.

تتسع تداعيات اللاءات السياسية بين الحزب والتيار. من الطبيعي ان ينصرف باسيل إلى البحث عن درب يوصله الى رئاسة الجمهورية لاحقاً، هذا حقّه. لكن من سيكون حليفه البديل؟ وعلى ماذا يراهن في تحشيد النواب خلفه لإنتخابه رئيساً؟ أم أن هاجس العقوبات هو الذي يتحكّم بمواقفه وقراراته الحالية والآتية؟ كل السيناريوهات واردة في الإبتعاد عن حليفه أو إعادة إصلاح ذات البين. هناك من يقول إن خسارة باسيل ستتضاعف سياسياً وشعبياً في حال حصل الإنفصال السياسي مع "حزب الله"، لأنه سيفقد حليفاً وفيّاً لتياره، كما أكدت المراحل الماضية منذ ربع قرن، كما انّ عواصم عربية وغربية تفضّل رئيس حزب "القوات" سمير جعجع على باسيل وهي لن تتنازل عن دعم "الحكيم" لصالح ايّ كان، وايّاً كانت الظروف. وبحسب إستطلاعات رأي أجرتها مراكز دراسات أفادت ان جعجع حافظ على جمهوره في الأزمة الحالية، رغم أن حساباته تخطئ في مقاربة العناوين السياسية في معظم الأحيان.

لا زالت كل الإحتمالات مفتوحة. فلننتظر استحقاق الحكومة للحكم على ما هو آت في مسار ومصير علاقة تفاهم بين حزبين عريضين واسعي التمثيل الشعبي، بدأ كل منهما يفقد الثقة بالآخر.