رافق انطلاق مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة التي يغتصبها العدو الإسرائيلي، رافقها الكثير من المواقف المتراوحة بين الملاحظة والاستفسار وصولا الى الهواجس حتى الانكار، وبالفعل انّ الحدث الذي انطلق بتاريخ14102020 ليس حدثاً عادياً في تاريخ المواجهة بين لبنان والعدو “الاسرائيلي” منذ إقامة كيانه المحتل لفلسطين في العام 1949. فما هي الحقائق الموضوعية التي ترعى المسالة او تنبثق عنها من أجل تقديمها للرأي العام ليتخذ منها الموقف المؤيد والمحتضن المدافع عن المصالح الوطنية بعيداً عن مواقف مسبقة قد تتسم بالمواقف الشخصية او تعذر الانسجام أو الكيمياء بين الاشخاص وعلاقاتهم السابقة والحاضرة. وللوقوف على الحقيقة لا بد من البدء بمسالة التفاوض ذاتها ولزومه وصولا الى مسالة اللقاء او الاجتماع بـ “الإسرائيلي” او عدم اللقاء به.
في البدء نؤكد انّ القانون الدولي العام وبخاصة قانون النزاعات المسلحة تضمّن أحكاماً وقواعد التعامل في الميدان او بالشكل العام بين الأعداء وفي هذا الإطار ونظراً لطبيعة علاقة العداء القائمة بين لبنان و”إسرائيل” بصفتها عدواً له فإنّ هذه العلاقات من حيث اللقاء والتفاوض مرّت بمحطات 6 كان للبنان في كلّ منها سلوك ينسجم او يختلف عما سبقه كالتالي:
1 ـ المحطة الأولى كانت في العام 1949 مباشرة بعد الحرب وتوقيع اتفاق الهدنة مع العدو “الإسرائيلي” في رودس حيث شكلت لجنة مراقبة الهدنة من 3 أطراف يمثلهم حصراً عسكريون من لبنان و”إسرائيل” والأمم المتحدة (مراقبي الهدنة OGL) وكانت مهمة اللجنة بحث انتهاكات أحد الطرفين لاتفاقية الهدنة وتسويتها فضلاً عن صيانة خط الهدنة المطابق للحدود الدولية المرسّمة براً منذ العام 1923، أيّ قبل اغتصاب فلسطين. وقد ألغت “إسرائيل” اتفاقية الهدنة من طرف واحد في العام 1967، لكن لبنان تمسك بها واستمر مراقبو الهدنة في مراكزهم في جنوب لبنان.
2 ـ المحطة الثانية كانت في العام 1982 بعد الاحتلال “الإسرائيلي” للبنان وحيث ضغطت أميركا على لبنان لإجراء مفاوضات ذات شكل وطبيعية ملتبسة بعيدة أولاً عن الأمم المتحدة وغير مبنيّة عل اتفاق الهدنة وشاركت فيها وفود ثلاثة من لبنان و”إسرائيل” واميركا، وشكلت الوفود من عسكريين ومدنيّين فيهم سفراء ما قاد البعض إلى القول بأنّ هذه المفاوضات شكلت اعترافاً لبنانياً ضمنياً بـ “إسرائيل” رغم النفي الذي أعلنه لبنان، وقد أفضت المفاوضات الى اتفاق 17 أيار الذي تمّ إلغاؤه تحت الضغط الشعبي اللبناني.
3 ـ المحطة الثالثة كانت في مؤتمر مدريد 1991 الذي دُعي اليه على أساس القرارات 242 و338، ورغم انّ لبنان لم يكن معنياً بهذه القرارات كونه لم يدخل الحرب مع “إسرائيل” في العام 1967 والعام 1973، إلا أنه شارك بتفاوض غير مباشر مع “إسرائيل” وبوفد مدني ولم توصل المفاوضات الى شيء.
4 ـ المحطة الرابعة كانت في العام 1996 إثر تفاهم نيسان الذي تمّ التوصل اليه بمساع أميركية سورية لحماية المدنيين على جانبي الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة. وانبثق عن هذا التفاهم هيئة عسكرية خماسية شكلت من عسكريين فقط من لبنان و”إسرائيل” وسورية وفرنسا وأميركا كانت تجتمع في الناقورة برعاية “اليونيفيل” لبحث الانتهاكات للتفاهم.
5 ـ في العام 2000 وفي معرض الانسحاب “الإسرائيلي” من لبنان تحت ضغط المقاومة طلبت “إسرائيل” تشكيل لجنة ثلاثية مشتركة من عسكريين من الأمم المتحدة ولبنان و”إسرائيل” لمراقبة الانسحاب والتحقق من اكتماله وإرساء تدابير أمنية على جانبي الحدود، فرفض لبنان الطلب جملة وتفصيلاً وفرض إنشاء لجنتين منفصلتين تتشكل الأولى من عسكريين لبنانيين وأمميّين وتعمل في لبنان وكنتُ رئيساً للوفد اللبناني فيها، وتتشكل الثانية من عسكريين أمميين و”إسرائيليين” وتعمل في فلسطين المحتلة وتتحقق اللجنتان من الانسحاب حصراً دون
التصدّي لأيّ موضوع آخر ودون ان يكون أيّ لقاء بينهما ودون ان تعبر أيّ منهما الحدود الى الجهة الأخرى. وقد أتمَمنا المهمة دون لقاء او تناظر مع أيّ “إسرائيلي”.
6 ـ في العام 2006 وبعد عدوان “إسرائيل” ومن غير مبرّر أو مستند قانوني دخل لبنان في لجنة عسكرية ثلاثية ضمّته الى الأمم المتحدة و”إسرائيل” ولم يكن للجنة هذه مهمة محدّدة من أيّ مرجعية سياسية او قانونية، واستمرّت هذه اللجنة باجتماعات تعقد في الناقورة في مقر قيادة اليونيفيل التي حدّدت لاحقاً مهامها بالنظر في الخروقات للقرار 1701.
اليوم يواجه لبنان مسألة ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة، وقد شكل لهذه الغاية وفداً برئاسة عسكري وعضوية 3 خبراء عسكري ومدنيان ما أثار التساؤل حول طبيعة الوفد وتداعيات تشكيله بهذا الشكل وانعكاسه على طبيعة العلاقة بين لبنان والعدو “الإسرائيلي”. وابدى أطراف لبنانيون هواجس من وجود المدنيين في الوفد لأنّ وجودهم يذكرهم بالمفاوضات التي أفضت الى اتفاق 17 أيار 1983 فأين الحقيقة في هذا الأمر؟
للبحث في الموضوع نرى مفيداً التذكير بأنّ تفسير أيّ سلوك بين أطراف متعددين يخضع لمعاني الشكل أولاً ويحسم بعناصر الموضوع والمهمة ثانياً. وعلى هذا الأساس، ورغم انّ المنطق يفرض القول بانّ طمأنة الخائف لا تتمّ بمجرد القول له “لا تخف” بل انّ الصواب يكون في اتخاذ التدابير العملية التي تجعله يطمئن، وتأسيساً على ذلك نرى:
أ ـ انّ تشكيل الوفد اللبناني بالصيغة والشكل الذي دخل فيه المفاوضات، ووجود عسكريّيْن مع خبير قانوني وخبير نفطي، يجعل من الوفد هيئة عسكرية تقنية ليس لها وجه سياسي او شبه سياسي، لأنّ الطابع السياسي يسبغ عليها في حال وجود شخص سياسي او دبلوماسي او ممثل شخصي لسياسي أو هيئة دستورية سياسية الأمر غير المتحقق في واقع الوفد اللبناني الآنـ والأصحّ تعريفه بأنه وفد عسكري – تقني ليس أكثر.
ب ـ انّ مهمة الوفد محدّدة حصراً بترسيم الحدود البحرية الجنوبية للبنان، دون ان يتعداها الى بحث أيّ شان من الشؤون السياسية والأمنية وسواها… وانّ ما أعطي من توجيهات وما التزم به هو أصلاً من سلوكيات يجعل الخوض بشأن خارج المهمة أمراً مستبعداً، ثم انّ عمله تحت رعاية مباشرة ولصيقة ودائمة يمارسها رئيس الجمهورية وقائد الجيش يخفف من ثقل الهواجس وتداعياتها.
ج ـ انّ رفض الوفد القيام بأيّ جزئية من جزئيات الاتصال المباشر بوفد العدو مهما صغر شأنها من شأنه أن يعزز الطمأنينة للتفسير والتأويل بأنّ المفاوضات ذات طبيعة غير مباشرة وتتمّ بين أعداء في حالة الهدنة وعبر وسيط دون أيّ اتصال مباشر بينهما.
د ـ انّ ما جرى في جلسة التفاوض الأولى وأداء الوفد اللبناني وسلوكياته فيها منذ الوصول الى الجلوس وتجنّب النظر وتوجيه الكلام للوفد “الإسرائيلي” الى مضمون الكلمة الى رفض الصورة المشتركة كلها أمور تؤكد انّ لبنان ملتزم قواعد التفاوض غير المباشر بحذافيرها.
بيد انه ورغم كلّ ما قلنا ورغم أننا كنا ولا زلنا نفضل ان تتمّ عملية الترسيم من غير تفاوض ولا لقاء مع العدو في مكان واحد خاصة على أرض لبنانية، فإنّ لبنان دخل اليوم في المفاوضات التي باتت أمراً واقعاً بمجرد انعقاد جلستها الأولى التي أسّست لجلسات تليها قد تنجح او تفشل في إنجاز المهمة، لكن يجب في كلّ الأحوال ان نتجنّب الوقوع في أيّ كمين او تكبّد أيّ خسارة مهما كان نوعها ومن هذا المنطلق ننظر الى بيان الاعتراض على وجود المدنيين في الوفد، ونرى فيه بأنه سلوك حذر وخوف من انزلاق خارج المهمة او منح فرصة للعدو لاقتناص مكاسب يرفض لبنان توفيرها له، ولهذا سيكون للبيان حتى ولو كانت دون الاستجابة الى مضمونه بتعديل الوفد عوائق، فسيكون للبيان دور يحصّن مهمة الوفد ويحميه من كمائن العدو وأفخاخه وفي كلّ حال تبقى العبرة بالنتائج رغم انّ للوسائل قدر وأهمية لا يمكن إغفالها.