في مثل هذا اليوم قبل عامٍ بالتمام والكمال، عاش اللبنانيون "حلماً" استمرّ لساعات، ربما لأيام، أو حتى لأسابيع، قبل أن "ينطفئ" وينذر بالتحوّل إلى "جحيم"، بفعل الأزمات والمآسي والكوارث المتراكمة، فضلاً عن تكتيك "التخوين" الذي أتقنته السلطة، بمختلف فروعها.
في السابع عشر من تشرين الأول 2019، كان المشهد "مثالياً"، حين ظنّ اللبنانيون من مختلف المناطق، أنّهم "نفضوا" ثوب "الطائفية" المشؤومة عن أنفسهم، واتّحدوا على كلمةٍ واحدةٍ في وجه طبقةٍ سياسيّةٍ لم تترك لهم هواءً نظيفاً للتنشّق، وأمعنت في الفساد حتى العظم.
لكن، في السابع عشر من تشرين الأول 2020، تبدو الصورة أكثر من "سوداوية". لم تفشل "الثورة" في تحقيق أمانيها، بل في "الصمود" بالحدّ الأدنى فحسب، ولكنّ الطبقة السياسية اختارت "القفز" فوقها، مستعيدةً في تشكيل الحكومة مثلاً، "العقلية القديمة" بحذافيرها.
بين 17 تشرين الأول 2019 و17 تشرين الأول 2020، تغيّر الكثير في البلد، نحو الأسوأ بطبيعة الحال، في وقتٍ تبدو "الثورة" بأمسّ الحاجة إلى من "يحييها ويوقظها"، بعدما باتت "ضرورة" اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ولا سيّما أكثر ممّا كانت قبل عام...
"الجحيم" حرفياً!
قد تكون مقارنة بسيطة بين الواقع قبل عام، والواقع اليوم، كافية لـ "التحسّر" على "ثورة" لم تنجح في تحقيق التغيير المنشود، بل تحوَّلَت في "مفارقةٍ" مضحكةٍ مبكيةٍ، إلى "المتّهَم الرقم واحد" في تحويل البلاد إلى "جحيم"، وتعبيد الطريق أمام "جهنّم"، التي حذّر رئيس الجمهورية ميشال عون قبل أيام من الذهاب باتجاهها.
قبل عام، "انتفض" اللبنانيون بسبب ما حُكي عن "ضريبة" على خدمة "الواتس أب" تبلغ ستة دولارات في الشهر. كانت "ثورتهم" مُحِقّة، ليس لأن "الواتس أب" هو أكبر "المصائب"، ولكن لأنّ هذه "الضريبة" لم تكن سوى عيّنة عن "مشروع" الدولة التي كانت ولا تزال "تستسهل" فرض الضرائب للقفز فوق أزماتها، وهي بهذا المعنى، لم تكن سوى نقطة في "بحر" ما كانت تُعِدّه للبنانيّين.
اليوم، لا "ضريبة" مفروضة على "الواتس أب"، لكنّ "الجحيم" بات واقعاً ملموساً في "يوميّات" اللبنانيّين. يكفي أنّ أحداً لم يسأل قبل عام عن "سعر صرف" ضريبة "الواتس أب" التي لم تكن تتخطّى التسعة آلاف ليرة لبنانيّة، وفق "خدعة" سعر الدولار "الثابت"، لإدراك واقع الحال، بعدما أصبح هذا المبلغ بمثابة "فضيحة"، وهو الذي لم يعد يكفي لشراء طعام الفطور في أفضل الأحوال.
أما معنى "الجحيم" بحرفيّته، فيتجلّى حين يصبح "جنى عمر" اللبنانيين الذي أودعوه في المصارف مُحتجَزاً، و"عصيّاً" على الاستخدام، بعدما أصبحت الودائع "مجرّد أرقام" باعتراف المسؤولين قبل غيرهم، علماً أنّ ما كان يسري على الدولار بدأ يسري عملياً على الليرة اللبنانية، مع تحديد المصارف "سقوفاً" للسحب، ما يؤدّي إلى تحميل المواطنين مجدّداً مسؤولية "فسادٍ" أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه.
وإذا كان اللبنانيون اختبروا ما هو أبعد من "الجحيم" بانفجار المرفأ قبل أسابيع، والذي جاء نتيجة الإهمال والفساد أيضاً وأيضاً، فإنّ "يوميّاتهم" لا تخلو من "المَرارة"، فالتضخّم في أوجه، والبطالة في أعلى معدّلاتها، والمرتّبات التي "انعدمت" قيمتها، انخفضت في الكثير من المؤسسات إلى النصف وما دونه، والمسؤولون لا يكفّون عن "التبشير" يوماً بعد يوم، بأنّ "الآتي أعظم"...
"مهزلة" وأكثر!
كلّ ما سبق يفترض أن يشكّل "مقوّمات" لتعزيز أسهم "الثورة" التي اندلعت قبل عام، لأنّ كلّ ما حصل على امتداد هذا العام من كوارث ومآسٍ، كان يجب أن يوحّد اللبنانيين أكثر في "السخط" على طبقةٍ سياسيّةٍ ارتكبت "الموبقات" ولا تزال، وينبغي أن يؤدي إلى اندلاع "شرارة" لا تنطفئ إلا بتحقيق التغيير الجذريّ والكامل.
لم يحصل شيءٌ من هذا، بل إنّ "الثورة" هي التي انطفأت، بحُجّة "كورونا" ربما، التي وفّرت "فرصة" للسلطة للاستيلاء على "المُكتَسبات"، تارةً بعنوان "حجرٍ قسريّ" لا بدّ منه، وطوراً بعنوان ظروفٍ قاهرة لم تعد حكراً على البلد، بعدما بات العالم كلّه "شريكاً" في المعاناة الاقتصادية والاجتماعية، وإن بنسبٍ متفاوتة، ولكنّها وفّرت أيضاً "ذريعة" للمجموعات المدنية للقفز فوق "التجربة" التي لم تجد من يتلقّفها، فوقعت "ضحية" خلافاتٍ ومشاكل كانت بغنى عنها بالمُطلَق.
ولعلّ نظرة بسيطة إلى الواقع السياسي المسيطر على البلاد والعباد اليوم تكفي أيضاً للبكاء على أطلال "ثورةٍ" كان إنجازها الوحيد، إن جاز التعبير، "إسقاط" حكومة سعد الحريري، بعدما اختار الأخير "الامتثال" إلى الرغبة "الجماهيرية"، كما قال، معلناً استقالته التي فجّرت "خلافات" مع "شركائه" السابقين. اليوم، يتبخّر هذا "الإنجاز"، فيما يستعدّ الحريري نفسه للعودة، وإن وفق "شروطٍ" يقول إنّها مختلفة، ويدرك الجميع أنّها ليست كذلك.
وإذا كان تأجيل الاستشارات النيابية، على سبيل المثال لا الحصر، "تفصيلاً" في سياق هذه الصورة العامة، فإنه يتحوّل إلى "نموذجٍ" لتعامل القيادات السياسية مع الوضع العام، بعد سنةٍ على "الثورة". فالاستشارات تأجّلت، وفق ما يؤكد المطّلعون، لأنّ الحريري رفض "التواصل" مع "خصمه" جبران باسيل، "رئيس أكبر تكتّل مسيحي"، ولأنّ الأخير "انتفض"، منعاً لوصول الأخير، من دون دعم "الكتلتين المسيحيتين الأساسيتين"، ولأن المطلوب اتفاقٌ مُسبَق على "تقاسم الحصص والمغانم"، تحت عنوان "التأليف قبل التكليف".
قد يكون ما سبق أقرب إلى "المهزلة" منه إلى "الواقع"، ولكنّه حصل فعليّاً، لأنّ "الثورة" لم تغيّر في "النفوس" شيئاً، وقد لا يكون "منطقياً" تحميلها أصلاً أكثر ممّا تحتمل، بعدما عجز انفجار بحجم انفجار المرفأ غير المسبوق، من تغيير شيءٍ في النفوس، بل بات البعض يتصرّف كما لو أنّه لم يكن، لدرجة محاولة "تبرئة" المُتّهَمين بـ "الإهمال" بالحدّ الأدنى، من دون أن ينتظر بالحدّ الأدنى أن تجفّ دماء الشهداء، وما أكثرهم!.
أين "الثورة"؟!
قبل عام، كانت "الثورة" على الطبقة السياسية أكثر من مُحِقّة، بمُعزَل عن حقيقة "نوايا" بعض الناشطين على خطّها، وعن استسهال "التخوين" لمجموعاتها من قبل السياسيين وأنصارهم، لأنّ أحداً لا يستطيع أن يقول إنّ هذه الطبقة السياسية أنجزت أو غيّرت أو أصلحت.
اليوم، أصبحت "الثورة" واجباً على شعبٍ تحوّل إلى "متلقٍّ سلبيّ" في أحسن الأحوال، يلتزم بتعاميم لحاكم مصرف لبنان وغيره، باتت "تعلو" فوق القوانين المرعية الإجراء، فضلاً عن كونها "تفرض" على اللبنانيين نمط حياةٍ لا يتناسب لا مع تطلّعاتهم، ولا مع "تعبهم" طيلة سنوات.
وحدها هذه التعاميم تكفي أصلاً لإطلاق "ثورة" على كل شيء، "ثورة" لا تبقي أخضر ولا يابساً، حتى يسترجع المواطنون "حقوقهم" بأموالهم ومدخراتهم بالحدّ الأدنى، بعد أن باتت تبرير إجراءات "الحجز عليها" أمراً روتينياً وعادياً ويمرّ مرور الكرام.
"الثورة" تبحث عمّن "يحييها"، ولكنّ مقوّماتها موجودة عند كلّ فردٍ وفي كلّ بيت، ولو أنّ مقوّمات "إجهاضها" موجودة أيضاً في كلّ بيت، ليس لأنّ أحداً ليس مقتنعاً بضرورتها، ولكن لأنّ كلّ فردٍ لا يزال يحيّد "زعيمه"، باعتبار أنه "آدمي ومختلف"، انطلاقاً من اعتبارات "طائفية" في الغالب الأعمّ!.