أمس، كانت الكتابة إبنة حفيف الغابات المطحونة ورقاً جاهزاً للتحبير بعدما هجرتها الطيور منقادةً نحو عصر الكتابة الضوئية وفوق ألواح الزجاج لتأخذنا كما الأطفال بأيدينا من الساعات الزجاجية في معاصم البشرية الى الكومبيوترات المصفوفة فوق المكاتب وفي الأحضان مروراً بالشاشات التي لا نهاية لأشكالها ووظائفها.
وصارت الدنيا وكأنّها عالم مجوّف من زجاج مشغول بأخبار الكوفيد 19 وكأنّها بعد هذا الموت المجنون لا تساوي قرشاً مثقوباً، قال صديقي.
جرثومة أوقعت البشرية في قاعٍ لا قرار فيه من الأسئلة والتفكير والعيش والأبحاث المتحيّرة في مستقبل المجتمع البشري وعلاقاته اليومية الإجتماعية والعملية وفي علاقات الإنسان ببيئته الصغيرة والواسعة. الأمر بحاجةٍ إلى فهم حقيقي للتشقّقات الحاصلة لأنظمة الأرض وربّما الكون البيئيّة. ينبغي، بالطبع، على كلّ منّا الحفاظ على حياته وفقاً في ضوء المعلومات المتناقضة المنهمرة عبر وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي تشحننا حيرةً وخوفاً وقلقاً في معايشة جرثومة المرض والموت. ولو شئنا الإسترشاد بهذا الكمّ الهائل من المعلومات والنصائح الطبيّة المتدفّقة، لقلنا أننا أسرى كارثة لم تتّضح هويتها أقامتنا في المجهول بين هائمين في اللحظة بين الموت والحياة.
أخرج من هذه الكوابيس المسترخية، نحوالماضي الجميل محاولاً النقر فوق شبابيك أجيال داهمتهم الشيخوخة فأراها تتصرّف وتعيش اليوم مثل أجيال الشباب والبنات والأحفاد تماماً، لا يمكن تقسيمها أو التمييز في ما بينها لأنّها مقيمة في أسرّتها بين ألواح الزجاج المتنوّعة تتخاطب من بعيد وكأننا نبحث في أسئلة الإغريق حول الكون والوجود والموت.
لن يتذكّر اللوح الأسود الحجري إلاّ من انتمي الى جيل هرم ٍعتيق إعتاد مثلي صغيراً أن يعلّق بلوحه طبشورةً كانت تعتبر أثمن من إسوارة الذهب الرقيقة اللامعة في زند أمّه وقد براها غسيل الأواني والثياب وقد كانت أمهاتنا تمتلكه بما يضاف إلى قواميس عجائب الدنيا السبع نسبةً إلى اليوم.
تلك الطبشورة باقية رمزاً للفقر والقيظ وحسن الكتابة والفهم ورسم أحلام المستقبل وأسس الحضارات. كان الولد يدسّ لوحه الأسود في كيس صغيرٍ من القماش الخام وقد خاطته أمّه، يعلّقه في عنقه ويعدو صباحاً مسابقاً العصافير والوعورة الى مدرسةٍ مفترشاً الحصير للتعلّم تحت السنديانة الهرمة، وعند الشتاء ينحشر الأولاد في غرفة يشغل زاويتها موقد دائم الإشتعال لأنّ كل ولدٍ لا يحمل بيسراه صباحاً قطعة حطب من سنديان يعود إلى بيت أهله.
إختصر اللوح الحجري المصان بإطارٍ خشبي المساحة الرائعة لأنظمة التعليم واستراتيجياتها في المدارس وتكايا التعليم في لبنان ومعظم البلاد العربيّة. تبدأ القصة بعلم الحساب والتهجئة والقراءة وصولاً إلى حفظ جداول الضرب ثم علوم التاريخ والجغرافيا والدين صعوداً نحو الفلك وفلسفة الإغريق وحتّى العلوم المحضة...وصولاً إلى عصر الفضاء.
من ينكر هذا اللوح الحجري الأسود الذي طلع عبر صفحته الضيّقة أجيالاً من العلماء والأطباء وأساتذة الجامعات من أبناء العرب إنطلاقاً من العراق العظيم إلى حفافي المغرب في كعب أوروبّا. وها أسماؤهم لامعة ومتقدّمة في كشف الجراثيم وفيها الكورونا التي تأسرنا جميعاً؟
من نسل هذا اللوح ولد "الآي باد"، حاملاً إسمه الأميركي العالمي الذي يحفظه الجميع عالمياً من دون الحاجة الى كتابته بالإنكليزية أو ترجمته أو سؤآل مجامع اللغة العربية في عواصم الضاد عن إسمه ومعناه وقد بتنا نجهل أماكن تلك المجامع في غبار المتاحف والذكريات.
يبدو رأس البشرية محشوراً في الصندوق المضيء بثقافات العالم ونصوصه ومنشوراته ولغاته ولهجاته وصورها الثابتة والمتحركة وأفلامها وكلّ أخبارها المتناقضة وفي رأسها الكوفيد 19. إنّه الحفيدة الرائعة التي جعلتك لا تسأل أحداً غير غوغل حفيد زواج الأذن والعين وقد أنجبت شاشة التلفزيون.
بين اللوحين الأسود والمضيء ثقافات مشقوعة لامتناهية وكأنّ الآي باد صار أشبه بسلّم تتعانق فوقه القارات الخمس وتتعلّم الأجيال أونلاين واصلاً الأرض بالفضاء وكلهم يرتقون ولا يتخالطون أجيالاً صامتة من مختلف الأعمار مشغولين بكبس أزرارٍ بسيطة لا تتطلّب المعرفة بل الخبرة والمهارة اليسيرتين في تحريك السبابات. كلّما ارتفعنا درجة ضمرت الأشياء وتمّ إختزالها الى مستوى تغريدات عصافير التويتر الزرقاء التي يقلدها رؤوساء الدول والبشر وتنشغل بها وسائل الإعلام بينما تكابد الصحافة المكتوبة لاهثةً خلف الحذف والإختزال تصارع تفشّي ثقافات الصدفة والعشوائية والفوضى التي تفرضها عادات النشر والإدمان على الآي باد ووسائل القراءة والكتابة المعاصرة.
غداً ستنسحب الأقلام اليابسة والممحاة والمبراة نحو عالم المتاحف أو الآثار. وغداً قد يسأل حفيد حفيدك مشيراً بسبابته نحو كوبٍ مليء بالأقلام:
ما هذا؟
فلن يسمع الجواب.