مرّت سنة على اندلاع الاحتجاجات الشعبية العفوية، في ١٧ تشرين الأول عام 2019، والتي أعقبها مباشرة تقديم الرئيس سعد الحريري استقالة حكومته التي كانت للتوّ قد توصّلت إلى ورقة، سُمّيت بالإصلاحية، لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية التي انفجرت في الشارع، وكانت الحكومة تعكف على البحث في سبل تنفيذها… لكن الرئيس الحريري فاجأ الجميع بإعلان استقالته، فقطع الطريق على تنفيذ الورقة التي اتفق عليها، الأمر الذي فسّر على أنه استجابة للضغط الأميركي.. ودخلت البلاد بعدها في مرحلة من احتدام الصراع السياسي، وسط الاحتجاجات في الشوارع.. لكنها لم تفض إلى ما يحقق آمال الناس في تلبية مطالبها العادلة والمحقة، بل أفضت إلى المزيد من التدهور على المستويات كافة.. وإذا ما دققنا في كلّ ما حصل والنتائج المستخلصة، بعد سنة على اندلاع الاحتجاجات، يمكن تسجيل ما يلي:
أولاً، غياب العامل الذاتي المتمثل بالقيادة، وعدم وجود البرنامج الواضح، الذي يربط بين تغيير السياسات الاقتصادية المالية والاجتماعية، ورفض الضغوط والتدخلات الأميركية الغربية في شؤون لبنان الداخلية.. والتمسك الحازم بخيار ونهج المقاومة وسلاحها في مواجهة عدو صهيوني لا يزال يحتلّ أجزاء من الأراضي اللبنانية ويهدّد لبنان ولديه أطماع بثرواته.. لأنه لا يمكن الفصل بين التحرر الاجتماعي وبناء دولة المواطنة والإنتاج من جهة، وبين استمرار النضال للتحرر من الاحتلال والهيمنة الاستعمارية الغربية…
وبدلاً من ذلك جرى وعن سابق إصرار وتصميم، من قبل القوى والمجموعات الانيجؤز، التحريض على رفض تشكيل قيادة وتحديد برنامج واضح، وعملت على الترويج لشعار «تقديس العفوية» لضمان تحريك الاحتجاجات بالوجهة التي تتناسب والمخطط الأميركي..
ثانياً، زيادة منسوب تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية والمعيشية في ظلّ اشتداد الحصار المالي الأميركي، والذي راهنت من خلاله واشنطن على نجاح ربيع أميركي في لبنان من خلال دعم الاحتجاجات ومساعدة القوى وجماعات الانجيؤز في ركوب موجة هذه الاحتجاجات وقيادتها وصبغها بالشعارات التي تحقق الأهداف الأميركية، على غرار ما حصل من ربيع أميركي في بعض الدول العربية، أو على غرار ما تمّ من انقلاب أميركي عام 2005 اثر جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.. وفي هذا السياق وظفت واشنطن الوسائل والأدوات التالية، لتحقيق انقلابها الجديد..
١– الحصار المالي والضغط الاقتصادي والأزمة الاجتماعية، وعمدت إلى زيادة منسوب هذا الضغط ودفع المؤسسات المالية في لبنان الى حجب الدولار عن المودعين بعد أن أفلست بنك الجمال، ومنعت التحويلات من الخارج بفرض قيود شديدة على تحويلها إلى لبنان..
2- إغداق الأموال الأميركية على مجموعات المجتمع المدني المرتبطة بالغرب للقيام بالمهمة الموكلة إليها، وهو ما اعترف به مؤخرا وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل، خلال شهادة له أمام الكونغرس، عندما كشف بأن واشنطن انفقت في لبنان، منذ عام 2005 حتى اليوم، عشرة مليارات دولار ذهبت لدعم المؤسسات الأمنية وقوى ومجموعات المجتمع المدني..
3 – دعم وسائل الإعلام، التي جرى تمويلها فجأة وإخراجها من أزمتها المالية التي كانت تعاني منها، لتتولى تغطية الاحتجاجات 24 /24، ولعب دور ضابط الاتصال وتوجيه وقيادة الاحتجاجات بما يصبّ في إطار الخطة الأميركية، التي وضعها السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان، لتنفيذ الانقلاب على المعادلة السياسية، وذلك عبر التصويب على حزب الله وحلفائه في السلطة وخصوصاً، الرئيس العماد ميشال عون، والتيار الوطني، ورئيس مجلس النواب نبيه بري.. وتحميلهم المسؤولية الأساسية عن الأزمة والمطالبة بتشكيل حكومة من «الإختصاصيين المستقلين» يُقصى عنها حزب الله وحلفاؤه، وتتكوّن من وزراء يدعمون التوجهات الأميركية الغربية لناحية تنفيذ الإصلاحات المطلوبة والتي تستجيب لشروط صندوق النقد الدولي، وإجراء انتخابات مبكرة تمكن القوى الموالية لواشنطن من الحصول على الأغلبية البرلمانية وإعادة تشكيل السلطة والهيمنة عليها وفرض انتخاب رئيس جديد الجمهورية ينسجم مع السياسة الأميركية، وصولاً، وهذا هو بيت القصيد، الى إبداء المرونة في ملف مفاوضات تحديد الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، بما يحقق الأطماع الصهيونية في ثروات لبنان، ومحاصرة المقاومة وإعادة طرع نزع سلاحها الذي يردع كيان العدو الصهيوني ويحمي لبنان من اعتداءاته وأطماعه.. ولتمرير ذلك والسعي لإنجاح الانقلاب الأميركي، كان لا بدّ من تضليل الرأي العام والتعمية على حقيقة هذه الأهداف المراد تحقيقها من خلال رفع شعار «كلن يعني كلن» للقول إنّ المحتجّين لا يميّزون في تحميل، كلّ أطراف الطبقة السياسية، المسؤولية عن الفساد وما وصلت إليه البلاد من أزمة مالية واقتصادية وخدماتية ومعيشية.. من خلال هذا الشعار الملغوم كان يُراد دغدغة مشاعر الناس ودفعها إلى الانخراط في التحركات الشعبية تحت ضغط الأزمة وزيادة حدّتها بواسطة قطع الطرقات وشلّ الحركة الاقتصادية، كما كان الهدف من شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» في الربيع العربي المزعوم.. وتحت شعار» كلن يعني كلن» تمّ إغفال، عن عمد، أيّ شعارات تندّد وتسلط الضوء على السياسات الاقتصادية المالية الريعية الحريرية التي تسبّبت بالأزمة ودعمتها واشنطن والعواصم الغربية، كما تمّ تجاهل الحصار الأميركي المفروض على لبنان وتحريض واشنطن ضدّ المقاومة وسلاحها وتحميل حزب الله المسؤولية عن الأزمة، والزعم بأنه يهدّد اللبنانيين، ويحمي النظام الطائفي، ويقف عقبة أمام الإصلاح وتغيير هذا النظام الفاسد..
ثالثاً، رهان بعض القوى الوطنية، التي انخرطت في الاحتجاحات، بأن تشكل هذه الاحتجاجات فرصة لتحقيق حلم التغيير الذي يخلص اللبنانيين من النطام الطائفي ويرسي أسس بناء دولة المواطنة، لكن هذا الرهان كان حلما، لأنه لم يكن يستند الى موازين قوى حقيقية قادرة على تحقيقه.. عندما راحت هذه القوى تطالب بتشكيل حكومة انتقالية تتولى تنفيذ التغييرات المطلوبة التي تمكنها من تنفيذ ذلك..
لقد كان واضحاً أنّ هذه القوى الوطنية، لم تكن موحدة ولا تملك رؤية واحدة، وشعاراتها لم تكن واقعية وممكنة التنفيذ، لأنها لا تملك القدرة على تحقيقها، وهي كانت تطالب الطبقة الحاكمة بتسليمها السلطة، وهذا طبعاً مطلب طوباوي .. ولهذا لم تنجح هذه القوى الوطنية في منع القوى والمجموعات التابعة للغرب من ركوب موجة الاحتجاجات، وصبغها بشعاراتها التي كشفت، في الفترة الأخيرة، علناً عن هدفها الحقيقي عندما رفعت شعارات المطالبة بتطبيق القرار 1559 ونزع سلاح المقاومة واستقالة رئيس الجمهورية العماد عون.. مما دفع القوى الوطنية إلى الامتناع عن المشاركة في الدعوات التي وجهت لإحياء انتفاضة 17 تشرين الأول، وتمييز نفسها عن تللك القوى والجماعات.. وهي خطوة كان يجب أن تقوم بها من البداية لإحداث فرز حقيقي في الحراك الشعبي، وكشف وفضح القوى والمجموعات المشبوهة في أهدافها والساعية إلى تنفيذ ربيع أميركي في لبنان، وليس تغيير السياسات التي تسبّبت بالأزمات التي يعاني منها اللبنانيون والناتجة عن النهج الريعي التابع للغرب..
ماذا كانت النتيجة، بعد مرور سنة كاملة على اندلاع الاحتجاجات؟
كلّ من يتابع المشهد اليوم يلحظ التالي:
1- فشل الربيع الأميركي، نتيجة، انكشاف حقيقة القوى والمجموعات المدعومة أميركياً والأهداف التي سعت إليها من وراء ركوب موجة الاحتجاجات.. والتي أدّت إلى إيصال الناس الى طريق مسدود في السعي الى تحقيق مطالبها الاقتصادية والاجتماعية، كما أدّى إلى إصابتها بالإحباط والانكفاء عن المشاركة في الاحتجاجات.. كما فشل الربيع الأميركي، نتيجة عدم قدرة الفريق الأميركي على تغيير موازين القوى في الشارع، وتماسك بيئة المقاومة وعدم النجاح في عزلها عن تحالفاتها الوطنية..
2- الفشل الأميركي الفرنسي في تمرير تشكيل حكومة اختصاصيين برئاسة الدكتور مصطفى أديب يتولى وحده اختيار وزرائها من دون مشاركة أحد من الأطراف السياسية الممثلة في البرلمان..
3- عودة الرئيس سعد الحريري إلى ترشيح نفسه لتشكيل حكومة جديدة من الاختصاصيين بالتفاهم مع الكتل النيابية، وقبول حقها في تسمية وزرائها من الاختصاصيين، وإلا لن يتكّمن من تأليفها وسيكون مصيره مشابهاً لمصير مصطفى أديب.. وهو ما كان قد أكد عليه حزب الله منذ البداية بأنه لن تكون هناك حكومة اختصاصيين تسير وفق الهوى الأميركي.. وإنما حكومة شراكة لمواجهة الأزمة التي يتحمّل مسؤوليتها، بجزء أساسي منها، فريق 14 آذار، وفي المقدمة تيار المستقبل لانتهاجه سياسات ريعية دمّرت الإنتاج الوطني وراكمت الديون، وزادت العجز في الموازنة، وأفقرت اللبنانيين..
4- اضطرار واشنطن وتل أبيب إلى القبول بشروط لبنان في اتفاق الإطار للبدء بمفاوضات غير مباشرة لتحديد الحدود البحرية والبرية بين لبنان وفلسطين المحتلة..
لكن في مقابل فشل الانقلاب الأميركي، يسجل ما يلي..
*ازدياد حدة الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وارتفاع كلفة الخروج منها على كلّ المستويات، والتي فاقم منها وباء كورونا، وانفجار مرفأ بيروت الذي زاد الطين بلة..
*فشل فريق الأغلبية في مواجهة الأزمة وتقديم حلول لها، بعد تشكيله حكومة الرئيس حسان دياب، وذلك نتيجة تردّده وعدم اتفاقه على برنامج موحد لتنويع خيارات لبنان الاقتصادية بالتوجه شرقاً لقبول عروض المساعدات والمشاريع من الصين وإيران والعراق إلخ… رغم انّ ذلك لو تمّ لن يكون على حساب علاقات لبنان مع دول الغرب، وإنما لجعل لبنان يبني علاقاته الاقتصادية مع جميع الدول على قاعدة مصلحته، وتحفيز الدول على التنافس في تقديم عروض المشاريع والمساعدات للبنان من دون شروط، وبالتالي وضع حدّ للارتهان الأحادي للغرب وابتزازه وضغوطه التي تستهدف جعل لبنان يرضخ للشروط الصهيونية، كما يجري حالياً من خلال الضغط الأميركي على السودان لتوقيع اتفاق صلح مع كيان العدو الصهيوني مقابل إزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب وإنهاء الحصار الاقتصادي المفروض عليه…