عادت محركات الدبلوماسيّة الاميركية للعمل من جديد في لبنان، بعد ان توقفت قسريا بفعل التدخل المفاجئ والقوي للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وها هي تدخل بقوة ان عبر المفاوضات غير المباشرة على ترسيم الحدود مع اسرائيل، او عبر "اللطشات" العديدة الصادرة عن وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو ومساعده لشؤون الشرق الادنى ديفيد شينكر. وفي هذا السياق، كان لافتاً عدم شمول شينكر بجولته النائب جبران باسيل، خصوصاً وانه صاحب اكبر كتلة برلمانيّة وبالتالي هو معني اكثر من سواه في الموضوع الحكومي خصوصاً لجهة اعطائها الثقة في مجلس النواب.
واذا كان الدخول الاميركي القوي على الخط متوقعاً من الناحية الفرنسيّة، اذ سعى ماكرون الى الرمي بكل اوراقه لتحييد الاميركيين وابعاد شبح تدخلهم في لبنان، وسعى بكل ما اوتي لإبصار حكومة لبنانية النور فياسرع وقت، والبدء بالعمل التنفيذي للخروج من النفق وحصد كل الايجابيات التي تتأتى عن هذه الخطوة، وطرح كل ما يمكن طرحه على حزب الهر لضمان نجاح الخطوة محلياً، الا اّن الرياح لم تجرِ بما تشتهي السفن الفرنسية، فحصل ما حصل.
اليوم، وبعد العودة الاميركية الدبلوماسية، ظهر بما لا يقبل الشك ان الاميركي قادر عندما يرغب، ان يُفشل او يُنجح اي مسعى سياسي ودبلوماسي في المنطقة، وانه لن يقف ساكناً ازاء محاولات فرنسا استئثار النفوذ كاملاً في لبنان، فجرى ما جرى. ومن الطبيعي في هذا السياق، الا يأتي اتصال رئيس الدبلوماسية الأميركي مايك بومبيو برئيس الجمهورية العماد ميشال عون عن عبث، ولا للاطمئنان على صحّته وتطور الاوضاع في لبنان، لان شينكر قادر على توفير تفاصيل كل هذه المعطيات الى ادارته والمسؤولعنه، لكن وزير الخارجية الاميركي اراد ايصال رسالة شخصيّة لجهة الاسراع في تشكيل حكومة لا تكون على شكل سابقاتها، وهو يعلم علم اليقين انه لا يمكن تأليف مثل هذه الحكومة بمعزل عن الاحزاب والقوى، ولكنه اراد ان يوحي بوجوب ان تعطي صدمة ايجابيّة من خلال وزرائها والبدء بطريقة عملها. هذا لا يحيد طبعاً عن سلوك طريق التسويات والمحاصصة، ولن يقتنع احد ان العالم يريد ان يتغيّر لبنان ونمط التعاطي فيه الى المثالية والشفافية المطلقة، فهذا حلم بات شبه مستحيل تحقيقه بالنسبة الى اللبنانيين وبضمانة دولية للاسف. ولكن الاميركيين يرغبون في اضافة "انجاز" جديد الى "انجازاتهم" في المنطقة بعد خطوة التطبيع بين اسرائيل وكل من الامارات العربية المتحدة والبحرين، والمفاوضات على ترسيم الحدود بين اسرائيل ولبنان.
من هنا، برزت اشادة شينكر برئيس مجلسالنواب نبيه بري، وحرصه وبومبيو على "طمأنة" عون الى ان مكانته "محفوظة"، ولكن الامر لا ينطبق على باسيل، حيث توقّع الكثيرون ان تأتيه المصيبة الاميركية عن طريق العقوبات الاقتصادية، الا انها اتت على ما يبدو عن طريق الرسائل السياسية والدبلوماسية التي تلقفها رئيس التيار الوطني الحر ويحاول التعاطي معها بأقل قدر ممكن من الخسائر، ويبدو ان ليس امامه سوى اعتماد سياسة لجأ اليها قبله حزب الله وعدد من الاحزاب الاخرى، وتقضي بالنفس الطويل لتمرير المرحلة وانتظار ما ستسفر عنه الاسابيع والاشهر المقبلة، لناحية اتضاح صورة الانتخابات الاميركية والنهج الذي سيتمّ تباعه مع اوروبا وايران. ولكن في الانتظار، سيكون التيار امام سيناريوهين: الابقاء على التحالف مع الحزب بالقوّة نفسها ودفع الثمن عبر تخفيف النفوذ والصلاحيات، اقله على المدى المنظور، واما الابتعاد تدريجياً عن الحزب والبدء بحصد النتائج الايجابية لهذه الفترة التي يمكن ان تطول.
انها مغامرة يجب درس طريقة اتخاذ القرار فيها بتأنّ وادراك، فكثيرون فشلوا في مثل هذه الاختبارات، وعلى الرغم من انه لم يتم الغاؤهم من المعادلة اللبنانية،الا انهم خضعوا لفترات من الابتعاد عن الحصص الكبيرة والنفوذ المهمّعلى الساحة.