هو التكيّف الصادم لكل من لم يعاين ويعايش الحالة اللبنانية. يتفاجأ كُثر من المتابعين كيف أن الشعب اللبناني بمختلف أطيافه وطبقاته وأعماره يتمكّن من تدوير زوايا الكوارث وتقبّلها دون غيره من الشعوب، فتراه يقفز فوق الأزمات الإقتصادية والصحّية مرارًا، ويجنح نحو مداواة الداء بالدواء. حسّ الفكاهة لدى اللبنانيين يكمن وراء سرّ المواجهة، فتعمد الأغلبيّة إلى تغليب السخريّة على الجدّية في تناول كلّ ما هو قاسٍ وجاف، فيطرحون أزماتهم وأوجاعهم من باب النكتة، فتكون النكات هنا السبيل للإنتصار على الألم وسوء الأحوال. إنّه لبنان المختلف بكلّ شيء.
تُعدّ النكتة أكثر وسائل الضحك شيوعًا في العالم، وهي بحاجة الى ثقافةٍ مشتركة بين الملقي والمتلقّي لجهة الإشتراك في العادات والتقاليد وكل ما هو مقبول او غير مقبول اجتماعيًا فيما بينهم، فما يضحكنا في مجتمعنا اللبناني قد لا يُضحك الاوروبي او الصيني في حال تُرجم المضمون للغته، فيحتاج الى شرح ويُفقد النكتة لذّتها وهدفها. فالنكتة هي اسلوب لعموم الناس يفهمه الكبير والصغير رجلاً ام امرأة، مثقفا ام غير مثقف.
من اكثر انواع النكات انتشارا، وخاصة في المجتمع اللبناني هي النكتة الاجتماعية والسياسية، وكذلك لانها تتناول موضوعًا عامًا جماعيًا يشمل كل الناس، كمشاكل النساء والغلاء والبطالة وسعر الدولار.
يفسر ذلك تعريف الفيلسوف الفرنسي الحائز على نوبل للاداب هنري برجسون بتعريف النكتة بقوله: "لا مضحك الا ما هو انساني، والنكتة هي محاولة قهر القهر، وهتاف الصامتين، انها نزهة في المقهور و المكبوت والمسكوت عنه".
أمّا من وجهة نظر سيغموند فرويد (مدرسة التحليل النفسي) فإنّ النكتة والفكاهة لهما علاقة متأصلّة باللاوعي واللاشعور، بحيث ركّز في كتابه "النكتة وعلاقتها باللاوعي" على أهميّة النكتة بالنسبة للانسان باعتبارها نافذة او وسيلة تنفيس وتفريغ للشحنات الانفعالية وضغوطات الحياة المكبوتة.
تصبح النكتة هنا وسيلة تعبير رئيسية ولسان حال للافراد والشعوب في حالات الكبت السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهنا يمكن تفسير الامر رجوعاً لفرويد على انه محاولة مواجهة القهر والكبت بالضحك والسخرية.
فالفكاهة عند فرويد واحدة من أرقى الانجازات النفسية للانسان، خاصة النكتة لانها تصدر عن تصوره من آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدّد للذات الداخلية.
ومن هذا المنطلق نرى ارتفاعًا ملحوظًا في استخدام اسلوب السخرية والنكت، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الاخيرة، ففور وقوع أي كارثة امنية، كانفجار المرفأ، او صحيّة، كفايروس كورونا، او اقتصادية، كانهيار قيمة العملة أمام الدولار، إلا وتشهد تلك المواقع غزوًا بمظهر التهكّم والاستهزاء والسخرية وتحويل الموضوع المأساوي بنوعه الى كوميديا يحمل في طياته الكثير من الفكاهة والضحك على الرغم من مرارة حقيقتها وسوداويتها.
ويمكن ملاحظة الكمّ الهائل من النكت المختلفة على صفحات الفيسبوك عن "معلّم التلحيم"، المسبب بالانفجار والحرائق، بالاضافة الى ضعف الطلب على اللحوم نتيجة غلاء الأسعار، وكذلك مواضيع اخرى تحوّلت لفكاهية كنوع من التعايش مع مشكلات الواقع والتكيّف مع ضغوطاته.
بالاضافة الى ذلك، فان الواقع اللبناني يشهد تأزمًا، بمعنى سيطرة مشاعر الاحباط وعدم الرضى والاستسلام، والاخطر من ذلك الامتناع بعدم جدوى التحرّك لتغيير الواقع المُعاش مما يسبّب بطبيعة الحال ردود فعل تهكّمية ولا مبالية عند اللبنانيين.
على صعيد آخر، إنّ الضحك الناتج عن سماع نكتة يخفّف الأوجاع بعد ان ينتج الجسم هرمونات الاندروفين التي تقتل الالم، كما أنّ النكات المضحكة ترفع من قدرات جهاز المناعة لأنها تحفّز من افراز بروتين المناعة وخلايا تي المضادة للفيروسات.
الى جانب ذلك تخفّف النكات الضغط النفسي عن طريق تخفيض افراز هرمون الكورتيزول الذي يؤدّي ارتفاعه للشعور بالتوتر.
كما ان للنكات الساخرة تأثيرًا ايجابيًا على الوظائف العاطفيّة والفكرية للانسان، فهو يساعد بأن يجعل تجارب الحياة الصعبة تبدو أصغر ومن ثم أقل تأثيرًا على صاحبها.
لن ينكفئ اللبنانيون عن "التنكيت" كونه أحد سبلهم القليلة على المواجهة، ولكن الأكيد وبعيدًا عن خصوصية المشاكل اللبنانيّة، فإنّ النكتة عمومًا هي المخرج البسيط والسهل للشعوب لقهر القهر، والإستمرار والتجدّد بعد الوقوع دائمًا.